إذا افتخر الأبطال يوماً بسيفهم وعدّوه مما يكسب المجد والكرم
كفى قلـم الكُتّـــاب عزاً ورفعــة مدى الدهر أن الله أقسم بالقلم
… وبعد … فإن التاريخ لم يعرف أمة من الأمم … عبر توالي الحقب … أولت خطها ما أولته الأمة العربية الإسلامية من اهتمام بالغ، حتى تحول من وسيلة للكتابة ووعاء للعلوم إلى فن تجريدي راق قائم بذاته، وذلك بفضل جهود جهابذته عبر العصور المتلاحقة – كل في نطاق عصره –
… والآن … دعونا نتساءل؟ ما هو السر الذي يقف وراء عظمة فن الخط العربي وسموه؟
… (ببكاء الأقلام تضحك الصحف) … وإن عظمة هذا الفن السامي تتجلى في كونه فنــاً عقلياً صرفــاً، وهــو – بحقٍ – الفن التجريدي الأول منذ بداياته الأولى إلى أيامنا هذه، وذلك لخلوه التام من أي نوع من أنواع محاكاة الطبيعة بأحيائها وجماداتها، على عكس ما هو الحال عليه في الفنون التشكيلية الأخرى من رسم ونحت …
وفن الخط – بصيغة أخرى – هو: (هندسة روحانية ظهرت بآلة جسمانية)، أو هو: (هندسة الصبر الجميل)، لأنه قائم في أصله على الصبر والمجالدة في الحك والتهذيب والإكساء والتنقيح والتعديل، وصولاً إلى أعلى الصيغ الجمالية في بناء اللوحة الخطية، وقد يتساوى الخطاطون في المعارف النظرية الخطية المتعلقة بقواعد الخطوط العامة .. ولكنهم بتفاضلون بجرع الصبر المتفاوتة التي يحملها كل واحد منهم.
وسر الجمال في فن الخط يكمن فيما تختزن ذاكرة الخطاط الحاذق من أشكال الحروف وتشكيلاتها وتزييناتها، وفي قدرته التوفيقية في ذاكرته الخطية ويده المنفذة، وهو ما يُسمى اصطلاحاً: (التصور البصري المكاني)، وإن هذه الذاكرة الواعية تصدر الأوامر إلى اليد المطيعة الماهرة … لتنفذ بالقصبة والمداد تلك الرؤى الجمالية المعتقة والقابعة في تلافيف الدماغ.
… وكلنا يعلم أن الخطوط العربية – بأنواعها – قائمة على توازن العلاقة الجمالية بين عرض القصبة وسيفها، وعلى ضبط هذه العلاقة وفقاً لأسس وقواعد مثالية ذهبية ومرنة، بحيث تقبل التحديث والتطوير والتعديل إلى ما شاء الله. … وللوصول إلى أفضل الصيغ الفنية في تركيب البنيان الخطي، يُبذل الخطاط جهوداً مضنية – قد تطول وقد تقصر – بحسب درجة الإلهام والتوفيق المصاحبة للعمل، ويتكئ على خبرته المديدة ومعرفته العملية بإمكانات الحروف اللانهائية في التقولب حسبما يريد النصر .
وإن الحرف العربي – دون غيره – ممتلك إمكانية القصر والمد والإرداف والإرسال والإرجاع والتموضع ضمن أشكال دائرية أو بيضوية … أو نصف دائرية … أو نصف بيضوية … أو على السطر … أو صاعداً هرمياً … أو هابطاً شاقولياً … أو على طريقة التركيب الحر والتوازن القلق، التي توحي للناظر بأن التكوين الخطي موشك على الوقع!! إلاّ أن توازناً داخلياً خفياً قوامه بناء متين وعلاقة جمالية خارقة بين الحرف وتشكيلاته يمنع هذا السقوط الوهمي أن يحصل …
… ويمتاز الثلث الجلي والديواني الجلي بإمكانات تشكيلية فريدة، ومطاوعة عجيبة لمختلف القوالب الفنية التقليدية والمعاصرة، وقد نُظمّت أبياتاً في ذلك، منها:
ثُلث الخطوط حدائق الأحداق شهدٌ يطيبُ لنُخبة الأذواقِ
“بدوي وهاشمُ” والكبارُ جميعهم ذرفوا البكاء لضاحك الأوراق
صاغوا “عيوناً” من بريق عيونهم حُوراً، فأضحت مصرع العشّاقِ
تلك المراتبُ لا تُنال تمنياً فافتح لعزمك منفذ الإعتاقِ
ولأن قواعد أي فن من الفنون إنّما وُضعت لتتبع ردحاً من الزمن … ثم يخترقها نحو الأجمل من يكون مهيأ لذلك … فإن كل مخترق لقواعد فن الخط ومتجاوز لها – بعد إتقانها – تُصبح اختراقاته التي تكون موضع جدل في عصره بين المتزمتين والمنفتحتين …
أقول: تُصبح تلك الاختراقات – بعد وفاته على الأغلب – قواعد مقدسة بعض عليها بالنواجذ من يأتي بعده، حتى يهيئ الله تعالى من يحمل لواء التجديد والتطوير … فينكره أهل الاختصاص – الذين يقيسون الجودة بالنقاط – ما وسعهم ذلك. حتى تترسخ طريقته شيئاً فشيئاً، وتًصبح من القواعد الراسخة وهكذا دواليك.
وهذه الحركة الدائبة المتعاقبة تدل – بما لا يدع مجالاً للشك – على حيوية فن الخط الدفاقة، وعلى الإمكانات اللانهائية التي تتمتع بها حروفه الجميلة التي يرسم بها الخطاط المتصوف – بشرايينه – الطريق إلى الله .. ويبذل في سبيل ذلك ما هو أبعد من قصارى جهده، وأعمق من عصارة فكره ونهاية معرفته .. فتراه يحني ظهره في سبيل استقامة ألفاته، ويفني بريق عينيه في تجميل عيونه، ويجوع في سبيل إشباع كؤوسه، ويحبس أنفاسه عند إطلاق مدوده، ويمرض ليبقى محبوبه – فن الخط – سليماً معافى.
.. والخط الجميل – إضافة إلى قيمته الفنية التشكيلية – وعاء أمين لثقافتنا وفكرنا وقديمنا، والخطاط المتفنن عندما ينشئ لوحته إنّما يستمد مادتها من القرآن الكريم أو الحديث الشريف … أو من عيون الأدب منظومه ومنثوره…
ورحم الله الشاعر العربي الكبير حسن البحيري حيث يقول في هذا المقام:
وإذا أردت الخط فاصطف مما يخط ويكتتب
واحسب يراعك مرقم الألماس يغمس في الذهب
لا عقلة مبرية تختار من عقل القصب
مغموسة في الحبر كالغسق الدجى إذا وقب
وأجله في الدرر الفرائد من يتيمات الأدب
ليكون آية كاتب صحب الخلود بما كتب
… وإنها لقيمة تربوية تعليمية مكنونة في خطنا العربي الأثير، وعلينا أن نستثمرها إلى أبعد الحدود في تنشئة الأجيال القادمة، حيث ينمي أبناؤنا ذائقتهم الجمالية، ويبنون ذاكرتهم الأدبية الثقافية – في آن معاً – من خلال ما تختزن عيونهم الناظرة إلى اللوحة الخطية من قيم جمالية ومعان سامية ولغة سليمة رشيقة … هم أحوج ما يكونون إليها في ظل هجمات العولمة الشرسة، والهزات الثقافية الفكرية المتلاحقة التي تتعرض لها أمتنا كما لم تتعرض لها من قبل.
وكلنا يتطلع بشوق إلى اليوم الذي نرى فيه فن الخط العربي … وقد أخذ مكانته المستحقة بين الفنون العالمية.