بداية لا يسعنا إلا أن نرحب بالأستاذ الخطاط والفنان التشيكيلي حسن المسعود أجمل ترحيب، ونشكره على منحنا هذه اللحظات الرائعة التي حدثنا فيها عن شيء من تجارب حياته العامرة التي حملت هم الخط العربي، عشقه، أدواته، تطويره … تلك اللحظات التي نقف إجلالاً لها لأنها تحمل خبرة تلك السنوات الحافلة من عمره التي قضاها عاشقاً للحرف العربي، منتجاً للكثير من لوحاتها، بأنماطها المختلفة، الأصيلة، والحروفية، والحديثة، كاتباً للعديد من الكتب والمقالات … حقاً لقد الخط العربي من روحه أنفاساً زكية تساعده على المضي إلى الأمام قوياً شامخاً … فإليكم حوارنا معه …
ترى، هل تذكر لنا مكان وتاريخ ولادتك؟
ولدت في مدينة النجف بالعراق عام (1944م).
ما هي دراستك والدرجة العلمية التي تحملها؟
ما بعد الدراسة الثانوية، تخصصت في الفنون التشكيلية، ثم حصلت على دبلوم عال من مدرسة (البوزار) في باريس.
هل من نبذة اجتماعية عن حياتك؟
في المدينة التي ولدت فيها لا توجد صور كثيرة؛ حيث حل الخط محل الصورة. فقد زينت المعالم المعمارية بالخطوط: المساجد، والمكتبات، والمحلات، والمقابر، حتى أن أكثر شوارع النجف كانت ممتلئة بالخطوط من كل الأنواع. والى جانب هواية الخط فقد كنت أحب الرسم أيضاً، وكان حلمي الكبير هو دراسة الفنون التشكيلية بمعهد الفنون ببغداد.
في ذلك الوقت لم نكن نعرف السينما ولا التلفزيون كما كانت الصحف المصورة غالية الثمن بالنسبة لمدينة تقع على أبواب الصحراء. ولعل عشقي للخط العربي بدأ برؤيتي لخالي السيد/ علي الهاشمي الخطيب، وهو مؤلف كتب، ويهوى الخط العربي، حيث كنت أراه يخط بالقصب، والحبر الأسود على الورق الأصفر، وقد كان يشرح لي كيف يخط سطوراً طويلة تحسب بعشرات الأمتار للمساجد.
وفي هذه الأجواء تنامت عندي رغبة الخط وأنا في العاشرة من عمري، وقد وجدت التشجيع المستمر في المدرسة لعمل بعض الإعلانات. مما دفعني تدريجياً للتعرف على الأساليب الخطية.
ومع انتهاء دراستي المتوسطة خاب أملي في دخول معهد الفنون لأسباب تافهة؛ حيث عرقلت الدوائر حصولي على شهادة الجنسية؛ وهي ورقة إجبارية تُطلب من كل من يريد الدراسة العليا.
كان ذلك عام (1961م)، حيث كان عمري (17) عاماً. فقررت أن أطرق أبواب خطاطي بغداد للعمل المهني كمساعد خطاط، فقد تنقلت من دكان إلى دكان: الخطاط عباس، الخطاط العسماوي، والخطاط الخالدي … وتعلمت الكثير منهم، ولكني كنت أنتظر الفرصة الايجابية للعودة للدراسة الفنية التي أحلم بها. واستمر بي هذا الحال لمدة (8) سنوات. كنت أعتقد في ذلك الوقت أن الخط هو مهنة للعيش فقط، أما الفن بالنسبة لي في ذلك الزمن هو كما في الأساليب الغربية فقط، لذلك رغبت في أن أكون فناناً على الطريقة الغربية …
والحقيقة أن الأجواء الفنية في العراق في ذلك الوقت كانت هكذا؛ حيث برز عدم الوعي بالتراث، وتفضيل المدارس الغربية في الفن، أضف إلى ذلك أن الكثيرين لم يكونوا يمارسون الخط بشكل فني.
وفي بغداد آنذاك، كانت توجد حركة راقية جداً لمعارض للفن الحديث ، فكنت أزور كل هذه المعارض.وخلال ثماني سنوات في بغداد رأيت معرضا واحداً للخط العربي، افتتحه الرئيس عبد الكريم قاسم، وأذكر أنه توقف أمام إحدى اللوحات، وقال: هذا خط هاشم البغدادي، وكان هاشم ليس بعيداً عنه، فقال له: هل يمكنك قراءته يا سيادة الزعيم؟ فقطع كل من سمع أنفاسه خوفاً من أن لا يستطيع رئيس الدولة تفكيك الكلمات المتشابكة. ولكن عبد الكريم قاسم قال: “ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله”. فتنفس الكل الصعداء وصفقوا.
في عام (1969م) وبعد المزيد من المصاعب، استطعت السفر إلى باريس، حيث وجدت عملاً بسيطاً في الشهور الأولى يكفي لسد الحاجيات الضرورية. واجتزت امتحان القبول في المدرسة العليا للفنون الجميلة (البوزار) حيث أمضيت خمس سنوات بدراسة عملية ونظرية للفنون التشكيلية حتى حصلت على الدبلوم العالي عام (1975م).
أثناء دراستي وفي عام (1972م) شاءت الصدف أن أتعرف إلى فنان مسرحي فرنسي قدير اسمه (كي جاكة) كان يدرس اللغة العربية بعمق، فعرض علي المساهمة معه بعمل مسرحي، أخط فيه أمام الجمهور وهو يُلقي الشعر العربي. وبعد ذلك انضم إلينا الموسيقار “فوزي العائدي”. فكنا نتنقل بين المدن الفرنسية في أماكن الثقافة والمصانع، حيث توجد داخل كل مؤسسة كبرى أماكن للعمل الثقافي كمسرح صغير، يؤمه العمال والموظفين بعد الغداء. وكانت الدعوات تصلنا من جهات كبرى حيث يشاهدنا الجمهور بالمئات، وجهات أخرى صغيرة لعدد قليل بحدود المائة شخص.
واستمر بنا هذا الحال حتى عام (1985م) أي لأكثر من (12) عاماً.
ورغم الصعوبات الكثيرة في العمل الحي أمام الجمهور، إلا أنني كنت سعيداً بتعريف الجمهور الأوربي والجمهور العربي المغترب بمختارات من الأدب العربي الكلاسيكي والحديث. كما كنت أبحث باستمرار عن الشعر العربي الذي يمتلك طاقة خطابية لإلقائها في صالات كبيرة.
كانت البداية صعبة جداً وقاسية حالها حال كل ابتكار فني جديد، وفي عملي الخطي كنت دائماً أريد اللحاق بالممثل والموسيقار والمحافظة على روح الخط العربي في الوقت نفسه.
ولكن باستمرار تجاربي، ونماء حدسي الفني، تولد لدي خط آخر أخطه في عملي هذا ينبع من الخط القديم ولكن لا يشبهه. كان لابد من اختصار الزمن، وتقليل الكلمات، وتكبير كلمة أو كلمتين بأسلوب جديد مع تصغير الباقي. إن حدسي الفني وتذوقي للخط جعلا من الخط عندي مادة تعبيرية للحظات المعاشة. وبعد وفاة الممثل المسرحي (كي جاكة) ظللت أخط أمام الجمهور إما وحيداً، أو بمشاركات مؤقتة مع فنانين آخرين.
هل يمكن أن تحدثنا عن مسيرتك الفنية بنبذة صغيرة؟
بعد (8) سنوات من العمل كخطاط في بغداد، استفدت منها بمعرفة الأساليب الخطية، وتعلمت تحضير أدوات الخط، والحبر، وطلاء الورق. لقد كانت تجربة مهنية وجمالية؛ حيث تعلمت كيفية توزيع الكلمات على سطح الورقة، كما تعرفت على المثل والقيم التي يتداولها الخطاطون ولا زالت تنير طريقي.
ثم تلتها المرحلة الباريسية والتي بدأت منذ عام (1969م) في دراسة الفن العالمي ابتداءً من فنون الشعوب الأولى حتى الفن الحديث. أعطتني هذه الدراسات القدرة على المقارنة بين الفنون الشرقية والغربية. كما تعرفت على الكثير من فناني الصين واليابان، ووجدت فنونهم وخطوطهم تقترب لكل ما هو جوهري من الفن الإسلامي من حيث المواد كالحبر والورق، ومن حيث معالجة السطح التشكيلي.
كل هذا دفعني إلى ممارسة نوع من الخط يتلاءم مع نفسيتي، والتجربة التي مررت بها في المكان والزمان الذي أعيشه.
كما أن استعمالي للخط في العمل المسرحي – لسنوات عديدة- وربطه بالشعر؛ دفعني إلى أماكن فنية تجمع بين صور الشعراء الخيالية وبين التكوينات التجريدية التي يمكن أن تكون على شكل يوحي بهياكل الصور، كما تدعو المشاهد للبحث عما تريد أن توحيه هذه الإشكال فنياً قبل معرفة النص المكتوب.
إن أكثر خطوطي هي محاولات لجلب شيء يقترب من الصور، فمثلاً: عندما أخط بيتاً من الشعر يتكلم عن النار، أتجه بعفوية نحو اللون الأحمر، وتأخذ الحروف أشكال اللهب. بينما لو أكتب عن الماء أستبدل الصعود العمودي بحركة أفقية انسيابية، وأفضل حينها استعمال الألوان الزرقاء.
هنالك مجالات أخرى في مسيرتي الفنية لها أهميتها كتأليف الكتب، فقد نـُــشر لي في فرنسا عشرين كتاباً تتناول الخط العربي القديم، أو تزيين الأشعار والقصص.
ما هو عملك الحالي (إن وجد إلى جوار الخط العربي)؟
منذ عام (1961م) حتى وقتنا الحالي، لا أعمل سوى في مجال الخط العربي. ولكنني استخدمت الخط العربي في أماكن لم يعتادها. فبالإضافة إلى الخط الاعتيادي، ساهمت في حفلات مسرحية ومع فنانين مختلفين منذ العام (1972م)؛ حيث كنت أخط أمام الجمهور على جهاز يعكس الخط مباشرة على شاشة كبيرة (البروجكتور).
هذا شيء مثير، هل يمكن أن تحدثنا أكثر عن هذا الموضوع، هل هو نوع من التراجيديا الصامتة، وما الهدف من كونك تخط مباشرة، وماذا تخط …؟
في البداية كنت أخط الأبيات الشعرية التي يقولها الممثل، حيث أستعمل ورق بلاستيك شفاف كالزجاج، وأقوم بالكتابة عليه بالحبر الأسود (أو ما يسمى: الحبر الصيني رغم أنه يصنع في ألمانيا)، وهذا النوع من الحبر تكون المادة الصمغية فيه من نفس تكوينات الورق البلاستيكي، الجهاز فيه نور ومرآة وعدسات ويحول ما أخطه على الشاشة مكبراً حسب وضع العدسات، وقوة النور، حيث يمكن أن يتم العرض على تكون الشاشة كبيرة جداً، بالنسبة لي أفضل دائماً العرض على شاشة قياس أربعة أمتار للشاشة، ويمكنك تصور الفرق مابين ما أخطه على ورقة بقياس شاشة الحاسوب، والجمهور يرى الخط بقياس أربعة أمتار. كنت أرتبط حسياً مع الممثل والموسيقار، وأحياناً نتشارك جميعاً بأحاسيسنا. أما الهدف من الخط مباشرة أمام الجمهور فإنه هدف فني بحت كما يفعل الفنان الذي يرقص أمام الجمهور أو المغني، الهدف هو أن يمضي الجمهور لحظات حية مع الفن. فالخط في المكتب له وظائف، والخط أمام الجمهور له وظائف أخرى.
ومع تطور هذه التجربة أخذت أقلص الكلمات، وأكبر الحروف، وأشكل فيما بينها تكوينات، أخطها بشكل سريع كي تعبر عن أحاسيسي أمام مئات العيون في الصالة.
باختصار كنت أرسم حوالي ثلاثين لوحة كل أمسية، فيتمتع الجمهور برؤية فنان ينجز لوحاته أمامهم، كما يجدون فيما أخط على الشاشة فروقاً رهيفة لا نهاية لها في الإنتاج الفني؛ حيث يلمسون الجرأة في المخاطرة بحركات صعبة، أو يشاركوني الأحاسيس في أنني سأخفق في الوصول لدائرة متكاملة أو مستقيم يتحدى قانون الجاذبية في صعوده العالي. أضف إلى ذلك أنني أختار كتابة خطية لكل بيت من الشعر العربي، وأترجم ما يقوله الشاعر فيدخل الجمهور في عالم من الخيال الشعري، والتشكيل الخطي.
منذ سنوات قليلة بدأت أستعمل الكاميرا أيضاً، التي تصور يدي تخط على الورقة، وترتبط الكاميرا بجهاز يبث الصورة مكبرة حتى حجوم كبيرة جداً على الجدار، وقد استعملت هذه الطريقة في حفلة كبرى بمهرجان اسطنبول مع مجموعة رقص عالمية وموسيقيين أتراك، كانت الصالة بقصر (طوب كبي) تحتوي (1500) شخصاً، وتكررت نفس الحفلة مرتين في مسرح كبير بمدينة (روما) بايطاليا، ومن ثم في أربعة مدن فرنسية .
من هم أساتذتك؟
لم يكن عندي أساتذة بالمعنى التقليدي لتعلم الخط العربي؛ ولكن العمل مع خطاطي بغداد، والأجواء المحيطة بهذا العمل علمتني الكثير، كما أن احترامي للخطاطين الكبار جعلني أنظر بعمق إلى أعمالهم، وأدرك جيداً جوهر العطاء الفني الذي وهبوه للحياة. أضف إلى ذلك أن اللقاء الشخصي مع الخطاطين الكبار جعلني أدرك كثيراً أهمية خطوطهم. فقد التقيت بالخطاط “هاشم البغدادي”، والخطاط “مهدي محمد صالح”، والخطاط “حامد الآمدي”، والخطاط :محمد عبد القادر”، والخطاط “محمود الشحات”، وغيرهم من الخطاطين العرب، كما والتقيت مع خطاطين من كوريا والصين بباريس، وعملت مع خطاطين بمدينة (أوزاكا) في اليابان.
ترى، لماذا لم تسع للحصول على إجازة من أحد الخطاطين؟
أولاً، لم أكن اعتقد أنني سأتوجه نحو طريق الخط في حياتي، وكان هدفي هو الاتجاه نحو الفن التشكيلي حسب المدارس الغربية. وثانياً، بالنسبة لي فإن “الإجازة” كانت تمثل شيء مهم في المجتمع القديم حتى بداية القرن العشرين. فقد كان الخط فن الدولة الرسمي، وكان تسلسل الخطاطين هرمياً، فكان كل الناس يعرفون من هم الخطاطون الكبار، ومن هم تلامذتهم، وعندما يحصل التلميذ على الإجازة يحق له : 1. التوقيع باسمه 2. تعليم الآخرين 3. الحصول على أعمال للدولة . وكل هذا لم يعد مطبقاً في مدننا، و لهذا السبب لا أعتقد أن الإجازة اليوم لها نفس الدور الماضي، بسبب التحولات الاجتماعية في بلداننا، ففي السابق كان أكثر السلاطين أنفسهم خطاطين ويقدّرون فن الخط .
وقد تسألني: كيف ولماذا رجعت للخط ؟ فأجيب باختصار، بغداد جعلتني أحد هواة الفن التشكيلي الغربي، لكن باريس أعادتني إلى ثقافتي الأصلية، وشجعتني على تطويرها لكي تكون موازية لثقافة الغرب. وهذا هو طريقي وحلمي منذ أربعين عاماً في باريس .
من هم تلاميذك؟
لا يوجد لدي تلاميذ بالمعنى المتعارف عليه عند الخطاطين. ولكني أعطيت الكثير من الدروس في مئات اللقاءات والدورات عن الخط اللاتيني، والخط العربي، بدأت منذ عام (1972م).
إن ما أعطيه من دروس يكون على شكل دورات مؤقتة ولمدة أسبوع تقريبا، وبعدها لا ألتقي في أكثر الأحيان بالمشاركين في هذه الدورات.
استقبل في هذه الدورات جمهوراً يجمع بين الصغار والكبار، الفنانين أو غيرهم، بهدف التوصل الى اكتشاف رغباتهم الفنية العميقة. لذلك أكون بينهم كفنان يرغب بالمشاركة فيما يعرفه معهم، ومن خلال معرفتي وتجاربي الفنية أدفعهم لاكتشاف الكنز الكامن في داخلهم.
وبرنامجي الذي أجهزه لمثل هذه الدورات يبدأ بأن أجعلهم يخطون ببساطة وببطء شديد (يعادل المليمتر الواحد لكل ثانية)، ثم تتصاعد سرعة الخط تدريجياً كما تكبر الحروف، حتى اصل معهم إلى اللحظات الأخيرة التي أطلب منهم الخط بسرعة على ورق كبير بحجم المتر، وبعيون مغلقة لتطبيق مقولة “فريد الدين عطار”: تعلم من الأعمى سر النظر. والخط في هذه الدورات يكون من الصباح حتى المساء وبشكل عملي، أما في المساء فألقي على مسامعهم بعض الدروس النظرية.
ومن ما أطلبه من المشاركين أن يتعاونوا فيما بينهم وأن يشرح أحدهم للآخر ما يعرفه، لذلك يصبح هذا اللقاء ثرياً لأن كل مشارك لديه العديد من التجارب والأفكار، بل أن قسم منهم من الخطاطين والفنانين الذين يرغبون من الاقتراب من الخط العربي ومعرفة مفاهيمه. والجدير بالذكر أن من هذه الدورات تتم في أماكن خيالية، ففي فصل الشتاء تكون في الصحراء دائما، حيث قمنا بمجموعة دورات في صحراء موريتانيا، وأخرى في صحراء المغرب، وصحراء الجزائر، أما في الربيع والصيف فتتم في قصور بالريف الفرنسي.
ترى ما السر من إقامتها في الصحراء ؟!
في البداية كنت أزور الصحراء، للتعويض عما فقدته، فلقد ولدت في مدينة النجف المحاطة بالصحراء، وخصوصاً أن سفراتي كانت تتم دائماً في الشتاء، حيث أترك باريس الرمادية الباردة، لألتقي بالرمال الذهبية والدفء، ويمكنني الحديث لصفحات طويلة عن فوائد العيش بالصحراء لأسابيع كل عام.
وهنا في الغرب توجد شركات نقل متخصصة تنظم لكل مجموعة من (12) شخصاً رحلة متكاملة للصحراء. وفي أحد هذه الرحلات تلقيت عرضاً من إحدى الجمعيات الثقافية في فرنسا بأن أبقى في وسط الصحراء، وأقوم بتنظيم دورات قصيرة للخط لمدة أسبوع لكل مجموعة، كان هذا عرض عمل لم ألبث أن وافقت عليه مباشرة، فأقاموا خيمة كبيرة للمدرسة، وأخرى للمطعم، وكان يشرف على كل (12) طالباً منهم (8) أشخاص للاهتمام بالطعام والخيم.
إن الخط العربي ولد في الصحراء وبانسيابيته وخفته وبساطته كفن يقترب لأجواء الصحراء، فقمت بتجهيز لوحات خشبية (سبورة) للكتابة عليها كالتي كان يستعملها الأطفال في المدارس القرآنية قديماً (الكتاتيب) كما نحضر الورق والحبر الوثائق من فرنسا، فالهدف قبل كل شيء هو هدف فني، أي عبر الخط نصل إلى تعبير عن الأحاسيس الداخلية. وقد عملت هذه الدورات مع تلك الجمعية لمدة (12) عاماً في ثلاث بلدان عربية.
ما هو تخصصك، وأي الأساليب تجيد؟
لكوني رساماً، فأنا أستطيع انجاز الكثير من الأساليب الخطية، ولكن في الخط، عندما تريد أن تخط خطوطاً جيدة فلابد أن تخط كل يوم الأسلوب الذي تحبه؛ لأن الخط يحتاج إلى تدريب متواصل، وبما أنني اتجهت نحو الخط الحديث، لذلك أعيد رسم الحروف لكي تتوافق مع الكتلة التي أرغب بعملها. لذلك أرى أن أفضل خطوطي هي خطوط حديثة مبتكرة عن القديم، ولا أهمل الخطوط القديمة حيث أستعمل باستمرار – منذ ثلاثين سنة – الكوفي القيرواني، كما أخط من وقت لآخر تكوينات بالديواني والفارسي وحتى بالثلث. إن عملي في مهنة الخط لمدة تقترب من الخمسين عاماً أعطتني تجارب كثيرة. والحقيقة أنني لا ألجأ إلى كتابة الأساليب القديمة كثيراً في عملي الخطي، حيث أن إنتاجي المتواصل، وأكثر وقتي مخصص للخط الحديث.
من هو مثلك الأعلى؟
إن هذا السؤال عام، ولدينا مثل أعلى في جوانب متعددة من الحياة، ولكوننا في موضوع الخط العربي فيمكنني أن أقول لك أن مثلي الأعلى هو كل خطاط فنان أضاف للبشرية عمل فني لم يكن معروفاً قبله؛ وهذا ما يثري الحياة ويطورها، ويساعد البشر على الارتقاء.
نحن نعيد كل يوم اسم “ياقوت المستعصمي” لأنه ترك لنا خطوط جميلة، ولأنه كان يتدرب جدياً في كل يوم، وعندما حاصر جند هولاكو بغداد عام (1258م) وأخذوا يرمون المدينة بالقذائف الحارقة، صعد “ياقوت” على المنارة ليواصل تدريبه اليومي على الخط، وليتحف الحياة بالخط الجميل، ولهذا السبب نحن نذكره باستمرار. خذ خطاطاً آخر وهو “حمد الله الأماسي (1436 ـ 1510) وهو الذي جوّد وحسّن خطوط “ياقوت”، فقد انزوى لأربعين يوماً مع كل ما تملكه خزينة الإمبراطورية العثمانية من خطوط لياقوت، وعندما خرج أتحفنا بأشكال للخطوط، وكأنها كتبت بعفوية لكنها في الوقت نفسه خضعت لقوانين هندسية ونغمية عالية الجودة ينتظر لها الخطاطون ليومنا هذا باحترام وتعجب، كما أنني أحب خطوط “مصطفى راقم” و”عبد العزيز الرفاعي” و”هاشم البغدادي”.
سأذكر اثنتين: الأولى لوحة: ” لا حول ولا قوة إلا بالله” للخطاط “مصطفى راقم” (1757 ـ 1826)، فقد أمضيت وقتاً طويلاً في تأملها بقصر (طوب كبي) باسطنبول، حيث يعجبني “مصطفى راقم” قدرته وجرأته على تحطيم العبارة، وإعادة تشكيلها حسب قيم جمالية جديدة تخصه هو وحده، ولم يقلد فيها أحداً؛ حيث ابتكر الطريقة الجديدة في تنظيم الحروف على سطح الورقة. فقد جعل الثلاث لاءات متقاربة في الوسط، وجعل الحروف السفلى تتوافق فيما بينها بتصغير حرف وتكبير آخر. ومن الملاحظ أنه قد بقي له في العبارة (3) خطوط عمودية فأضاف كلمتي “العلي العظيم” في الأعلى، واستعار منها حرف الألف، وخطه كبيراً لينشئ تكويناً يحتوي على اثنين من الحروف العمودية على اليمين، واثنين على اليسار من أجل المعادلة الهندسية للبناء التشكيلي، كما وصعّد لفظ الجلالة إلى أعلى التكوين، وقرّب النقاط الأربعة. لقد كان يملك خيالاً واسعاً، ولديه قدرات فنية عالية في السيطرة على الحروف. أما اللوحة الثانية، فهي لوحة “الواوات” للخطاط “محمد شفيق” الذي عاش في القرن التاسع عشر، وهي توجد في الجامع الكبير بمدينة (بورصة) في تركيا.
وأذكر أنني سكنت عام (1979م) بفندق يقابل الجامع لكي أمضي وقتاً طويلاً برؤيتها مرة في الصباح الباكر حيث كنت وحدي في الجامع، ومرات أخرى انظر إليها وأنا بين رواد المسجد لرؤية علاقة الخط بالجمهور.
تتعانق الواوات بشكل ديناميكي، وتختلط الحركات داخل كتلة ثقيلة من حروف طائرة في الفضاء، يقترب طول هذا الخط من أربعة امتار، نرى فيه أربعة واوات، اثنين على اليمين، واثنين على اليسار في شكل متعاكس كالمرآة، أحد الواوات ينتهي باستدارة، أما الثاني وحرف فينتهي بشكل مدبب كالسيف، وفي أعلى التكوين عيون مبهمة متخاصمة، ولكن في قلب التكوين شكل هندسي عقلاني خطت فيه عبارة صعبة القراءة: “اتقوا الواوات”. قد تمعنت النظر في هاتين اللوحتين زمناً طويلاً، ودخلتا بوعي أو بلا وعي أجواء لوحاتي الخطية.
ما هي المعارض التي عملتها؟
منذ عام (1980م) عملت الكثير من المعارض الفنية تحسب بالمئات في فرنسا ودول أخرى.
هل شاركت في مسابقات؟
لا لم أشارك في مسابقات.
ما هي طموحاتك ورغباتك؟
رغبتي هي التواصل بشكل أكبر مع الجمهور العربي، للمساهمة بالحوار الفني والثقافي. بالنسبة لي فإن الثقافة تعني البحث عن أجمل ما تركه لنا الفنانين القدماء، وهذا ما نسميه التراث. وكل عمل فني بحاجة إلى تنشيط الذاكرة، وجلب الجيد من نتاج الماضي ليغذي الفن الحديث. إن هذا النوع من الحوار يعطي الامتلاء للإنسان، ويبعده لفترة من الزمن عن الغم والهم. لأن الفن يتناول قضايا الوجود البشري، والخلود عبر ارتباطنا الوثيق بالطبيعة.
يعيد لنا الفن كل ما هو منسي مما خلفه خطاطو القرون الماضية، وهكذا يمكننا الذهاب إلى الابتكار انطلاقاً من نقطة توقف خطوط الماضي، وما الشعوب المتحضرة إلا حضور مستمر لفنون الماضي، والرغبة بتجاوزها. فتنعكس هذه الرغبات السليمة على كل نشاطات الإنسان، وحتى على المنتجات الاقتصادية المعاشة فتتطور الحياة، هنالك ذهاب وإياب بين ما أنتجه الفن وما أنتجته المهن الأخرى، حيث كل واحد يثري الآخر.
إذا كانت الكتابة هي المقدمة لظهور الخط.، فكيف تفسر نشأة أنواع الخطوط عبر تاريخها العربي الإسلامي؟
قبل الإسلام كان هنالك نقاش حول استعمال الصور والتماثيل بأماكن العبادة، وكان من يريد ذلك، يعتبر أن الصور هي كتاب الأميين، وكان هناك من يعارض إنتاج الصور من الألوان والحجر كي تمثل الآلهة، فكانوا يقولون أن الإله يكون في قلوب البشر لا في الحجر .
البيزنطيين مسيحيو الشرق، وافقوا على عمل الصور على شرط أن تكون مسطحة، وبدون تظليل، أي كرسوم أفلام الكرتون.
لكن الإسلام ومنذ البداية أعطى إشارة واضحة بعدم وضع الصور والتماثيل في أماكن العبادة، وذلك عندما ألغيت كل صور وتماثيل آلهة العرب داخل وخارج الكعبة، وهكذا أصبحت الرسوم والصور غير محببة في كل الدولة الإسلامية فيما بعد. وأصبح الخط مدللاً ومحبوباً.
وإن اكتسب الخط أناقة لا توصف في الكتب، فقد صعد على جدران المعالم المعمارية، فاشترك الخطاط مع المهندس المعماري في إشغال مساحات خصصت له على جدران المعمار، وباختلاف وتعدد الحضارات عند شعوب الإسلام من الصين وحتى الأندلس؛ جاءت الخطوط مختلفة ومبتكرة في كل مكان.
ومع انتقال صفحات الكتب في البداية إلى جدران البناية، فإن ما ابتكره خطاطو البنايات، وبحسب المواد التي استعملوها أبهر خطاطي المصاحف وتأثروا بها. إنه ذهاب وإياب مابين الحبر والورق والمواد المختلفة للبناء، كل هذا شجع على ابتكار الأساليب العديدة في الخط العربي.
وعندما أصبح الخط فن الدولة، فإن هواية الخط وجدت مكاناً لها عند المثقفين، فأبدعوا أساليب متعددة، منها لاستعمالات خصوصية كالديواني للرسائل الخارجية، والرقعة للوثائق الداخلية، والكوفي والنسخ والثلث للنصوص المقدسة، والكوفي المرسوم كالمورق والمضفر للبنايات، وهكذا أصبح المجال واسعاً للتكلم عن تعدد الأساليب بالخط العربي خصوصاً ما له علاقة بالحياة الأدبية .
بعض الخطاطين بدأ يستخدم بعض الأحرف من الخط العربي في لوحاته، أو ما يسمى بالمدرسة الحروفية الجديدة، والتي تقوم بمزج الألوان بالحروف، أو محاولة تطويع الحروف العربية لتعطي لوحة جميلة، ما رأيكم بذلك؟
لا أحب استعمال كلمة “الحروفية”؛ وإنما أجد أن كل ما يأتي من الكتابة العربية، هو ضمن العائلة الكبيرة والمتعددة الاتجاهات والتي تسمى “الخط العربي” على مدى قرون عديدة وحتى عصرنا الحالي؛ ويمكن لكل فرد الحكم عليها حسب ذوقه.
كانت هناك في الماضي استعمالات للخط لم تعد ممكنة اقتصادياً في عصرنا الحالي كخط الكتب، بينما ولدت أدوات جديدة كالحاسوب بحاجة لرسم الحروف من جديد، اذاً، كل شيء ممكن داخل فن الخط العربي، وسيبقى الجيد والجميل ويصبح خالداً، أما الضعيف فسوف يُنسى.
ومن هنا سترى أنني أعتقد أن مجال الفن، هو مجال الحرية، والتجربة المستمرة، ولا يمكن بأي حال، وبأي ذريعة، وضع حدود مسبقة.
نشهد اليوم إقامة معارض للخط العربي في كثير من البلدان العربية والإسلامية وبعض الدول الأوربية، ما أهمية إقامة مثل هذه المعارض ولاسيما في الدول العربية؟ ماذا تمثل هذه المعارض، هل نقول أن الخط العربي لا زال بخير، وانه في تقدم … ما وجهة نظركم من ذلك؟
المعارض والمواقع على الانترنت والمجلات كلها ضرورة مشجعة على استمرار الخط العربي. في القرن التاسع عشر كان عدد الخطاطين يقاس بالآلاف، بينما اليوم يقاس بالمئات، إذن نحن في تقهقر في أهم الفنون العربية/ الإسلامية. لذلك تبرز الحاجة لكل من يتكلم عن الخط.
أصبح الآن بالإمكان رسم الخطوط بالحاسوب، كما أصبح بالإمكان إنشاء لوحة تركيبة بهذه الحروف المرسومة؛ لينتج لوحة خطية تقارب ما ينتجه الخطاط، ما رأيكم بهذه الخطوات، وما حدود استخدام ذلك؟
عندما ظهرت المطبعة في القرن الرابع عشر، عارض الكثير في العالم الإسلامي استعمالها، ولكن في القرن التاسع عشر أدخل احد سفراء الدولة العثمانية المطبعة إلى اسطنبول، فخرج الخطاطين في مظاهرة مع نعش مليء بالقصب الذي يستعملونه للخط للإعلان عن موت الخط العربي.
ولكن اليوم نرى أن المطبعة اجتاحت كل مناحي حياتنا، بل أنها دخلت البيوت بطابعات صغيرة ملصقة بالحاسوب. ولكن الخط لم يمت!
كان على خطاطي اسطنبول أن يفكروا بكيفية إبداع استعمالات جديدة للخط، وعدم إضاعة الوقت بالاحتجاج الواهي، والتمسك بنوع من الخط دون تطويره، بينما يوضح تاريخ الخط لنا بأن هناك ألف شكل للخط العربي، ومن الممكن أن نضيف ألف شكل جديد.
اليوم نحن أمام مشكلة من النوع نفسه، ولابد أن نبدع في الخط بأشكال يعجز الحاسوب عن ابتكارها، وعلى الحاسوب أن يبقى يركض لاهثاً وراء الإنسان الخطاط. فالآلة لا يمكنها الإبداع مهما كانت قوية، إنما تبقى مقلدة للإنسان.
أنت قلت في سؤالك: إن الحاسوب ينتج لوحة خطية تقارب ما ينتجه الخطاط! ولكن كلمة “تقارب” هنا تعني كل شيء، ففي الفن من قال: إن المرأة جميلة كالوردة هو شاعر، ولكن أن يأتي شخص آخر ويقول الشيء نفسه فسيُعتبر مقلد، لأن المهم هو من ابتكر التعبير الجديد، ولأول مرة، وهو الفنان الحقيقي.
أعتقد أننا لابد أن نستفيد إلى أقصى الحدود من الحاسوب، وان نعتبره واسطة لنا. وسوف ننتج بإمكانياته خطوطاً مختلفة تماماً عما تخطه يد الخطاط. ويبقى أن نقول إن يد الخطاط ترسم إرادة وروح الخطاط نفسه، الخطاط الإنسان ذو المشاعر، والقلب النابض، والفكر الواعي.
هل راودتك فكرة إنشاء حرف طباعي عربي (فونت)؟
قبل أربعين عاما كانت قضية رسم الحروف من اهتماماتي، وعملت في ذلك الوقت بعض الأساليب التي كانت تستعمل في لصق الحروف، لكن ومنذ سنين طويلة تخصصت في اتجاه التعبير في الخط، ولا أجد الوقت الآن لعمل مثل هذا النوع من الحروف.
الكثير من الخطاطين العرب يعتقدون أن الخط الطباعي العربي (الفونت) يُعد إساءة بالغة للخط العربي، وأسسه السليمة؟
الحرف الطباعي (الفونت) هو ضرورة لاستعمالات تربوية وثقافية وإعلامية وصناعية، أما الخط كفن: فهو غذاء للروح. كلٌ له مكانه، والحروف الطباعية الجيدة ستبقى، والضعيفة ستزول. الزمن يبني قلعة ويهدمها -كما يقول المثل الشعبي-. فهل هذا يكفي لتهدئة الخواطر. أضف إلى أن الخط العربي كفن عمره ألف سنة الآن، وهو ناضج وقوي، ولا يمكن أن يهدم بلحظة.
من خلال خبرتكم الطويلة في هذا المجال كيف ترى واقع فن الخط وتراثنا العربي المخطوط اليوم. وهل من أشخاص يحملون الراية نحو التطوير أم الجمود؟
إن واقع الخط العربي يمكن أن يكون أفضل بكثير، قلة هم الهواة للخط نسبة إلى ملايين البشر في العالم العربي الإسلامي الذين يستعملون الحرف العربي كل يوم.
المسؤولية في قلة حضور الخط تقع حتماً على الهيئات الثقافية الرسمية، فإن الخط هو الكتابة أولاً، وكلنا نكتب. وعندما نرى حروفاً جميلة فإن ذلك سوف يغذي أذواقنا ويجعلها تتطور، والإنسان الثري ثقافياً يعيش حالة امتلاء، وسيكون حراً واثقاً من نفسهً يسير نحو الارتقاء والإبداع.
كلمة أخيرة لعشاق الحرف العربي …
اهتمام الواحد بالخط، إنما هو إثراء للكل.
مقابلة أجراها/ حسن أبو عفش لموقع “هبة ستوديو” في بداية عام 2010