الحرف وسيلة يختزن بها الإنسان ثقافته ومعارفه، والخط العربي أضفى على الحرف ما نراه من جمال في الكتابة والفن حتى غدا ذخيرة من الروعة والإبداع، ومنطلقاً لتأليف لا حصر له. وكان منشأ الخط في اليمن أولاً ثم انتقل منه إلى الحجاز، ويذكر القلقشندي أن أول من وضع الخط والحروف العربية هم ستة نفر من العرب البائدة. ويقول الدكتور صلاح المنجد: “إن الخط العربي كان قد انشق من الخط النبطي”.
ويذهب الدكتور محمد أحمد مكي إلى أن الخط الآرامي هو جد الخطوط العربية، ويرجع الخطاط كامل البابا أصل الخط العربي إلى النبطي أيضاً، بينما يرى ابن خلدون أن الخط العربي نشأ في اليمن ومنها انتقل إلى الحيرة، ومنها إلى قريش. واستند المستشرقون إلى النظرية التي تقول: “إن الخط العربي مشتق من الخط الفينيقي الذي تولد عنه الخط الآرامي”.
أنبل الفنون:
من أقدم الخطوط على الأرض العربية ولدت أول أبجدية عرفها التاريخ وهي أبجدية رأس شمرا في سوريا، والخط العربي هو تراث العرب الخالد ومكانته كمكانة الرسم والنحت والتصوير عند الغربيين. قال ملك الروم في عهد الخليفة المعتمد: “ما رأيت للعرب شيئاً أحسن من هذا الشكل، وما أحسدهم على شيء حسدي على جمال حروفهم”.
وتقول الدكتورة أسن أتيل: “وتطور الخط وظهر على أنه أنبل الفنون، وأهمية الخط في الحضارة الإسلامية لا يمكن أن تكون أهمية مبالغ فيها، ذلك أن هذا الشكل من الفن قد احتفظ عبر القرون بأعلى المستويات الجمالية والفنية”.
وبدأ استعمال الخط العربي على كل من الخشب والعظم والحجر وقحوف النخيل حتى شاع استخدام الورق في النصف الثاني من القرن الثامن الميلادي. واعتنى الإسلام منذ نشأته بالكتابة، وقد سجل القرآن الكريم هذا الاعتناء في الآية “إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ” البقرة 282. وأطول آية في القرآن تبين صفة الكاتب والكتابة والمملي والشهداء على الكتابة. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أول مشجع في انتشار الخط العربي، فقد بلغ من اهتمامه بالكتابة أنه كان يطلق سراح الأسير في غزوة بدر الكبرى مقابل أن يعلم عشرة من أبناء المسلمين الكتابة، كما أنه عليه الصلاة والسلام خصص جماعة من صحابته لكتابة ما ينزل عليه من قرآن. وكان هناك كُتاب للرسائل والمعاملات المادية، وكُتاب للمعاملات المدنية، وآخرون لأموال الصدقات والمغانم، وأصبحت الكتابة أمراً ضرورياً يعتمد عليه في الأمور السياسية والإدارية والدينية، وشيئاً فشيئاً تحولت إلى ظاهرة حضارية، وبات الناس يؤمنون أن الكتاب قيد العلم كما كان يردد الشعبي، وأصبح مستساغاً أن ينصحهم ابن المبارك بقوله: فخذ العلم بحلم ثم قيده بقيد.
أول ابتكار:
وكان أول ابتكار في الخط العربي في الكوفة في خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، حيث كتبوا به أشكال النقود والمصاحف، كمصحف عثمان رضي الله عنه الذي أدرك ما لتدوين القرآن من أهمية في حفظه وضبطه، فجمعه في مصحف عرف بالمصحف الإمام، وهو أول استخدام لكتابة العربية بأصولها الأولى التي احتفظت فيها بالرسم النبطي في كثير من صور الكلمات. وانتشر الخط العربي خارج الجزيرة العربية بانتشار الإسلام عن طريق الفتوحات الإسلامية، وتطور تطوراً كبيراً في العصور الإسلامية المتعاقبة، وخاصة في العصر العباسي، وانتقلت إمامة الخط العربي في المائة الثالثة للهجرة إلى محمد بن مقلة وهو أديب ووزير وشاعر وسياسي، وهو أول من وضع للخط مقاييس وهندس الحرف وفق أصول وقواعد، وتتلمذ على يده ابن البواب الذي كتب أربعة وستين مصحفاً، ثم جاء المستعصمي الملقب بقبلة الخطاطين، وبلغ الخط العربي كماله في عهد العثمانيين.
الزخرفة في الكتابة:
ويعد استعمال الزخارف والنصوص الكتابية من أبرز الدلائل للفن الإسلامي، أكسب كل إقليم شخصية مميزة في إطار الشخصية العامة، فاستعمال الكتابة في الطراز المغربي يختلف عن استعمالها في المشرقي. أما في خصوص الفنون الزخرفية فالكتابة بالخط العربي عند المسلمين حلت محل الصورة في الفن المسيحي، وأدت مرونة الحرف العربي وسهولة حركته وقابليته للتشكيل إلى إطلاق العنان أمام الخطاطين فأخذوا يشكلون حروفاً حسب المساحات المخصصة للكتابة، ويزخرفون كتاباتهم بشتى الأساليب الزخرفية.
قيمة روحية وجمالية:
وكان اهتمام العرب بالخط كبيراً لأنه الوسيلة الأولى التي حفظوا بها تراثهم العريق، وبه كتب القرآن الكريم والحديث الشريف والشعر والأدب، فتفننوا بإبداع الصفات للخط العربي باعتباره هندسة روحانية تمت بآلة جسمانية، حتى أن بعضهم عد كتابة آية من القرآن نوعاً من العبادة. وتمتاز الحروف العربية بأنها تكتب متصلة أكثر الأحيان، وهذا يعطي إمكانات تشكيلية كبيرة دون الخروج عن الهيكل الأساسي، ولذلك كانت عملية الوصل بين الحروف المتجاورة ذات قيمة هامة في إعطاء الكتابة العربية جمالية من نوع خاص. ويمكن القول بأن الخط العربي فن تشكيلي له مقوماته حيث يمكن أن تتم اللوحة باستخدام عدة ألوان أو لون واحد، كما يمكن أن تكون الحروف جزءاً من اللوحة.
أهم أنواع الخط:
– خط النسخ: تكتب به المصاحف والأحاديث النبوية، وغيرها.
– خط الثلث: تكتب به رؤوس الموضوعات وكذلك عناوين الكتب.
– خط الرقعة: لكتابة المراسلات اليومية.
– خط الديواني: لكتابة البيانات.
– خط الفارسي: للقصائد والبطاقات.
– الخط الكوفي: لكتابة الحكم والنصوص على المباني.
– خط الطغراء: توقيع سلطاني لصاحب الحق في منح الترتيب.
المرأة والخط العربي:
يذكر المؤرخون عدداً من النساء اللواتي عرفن بحسن الخط وإتقان الكتابة، ومنهن: الشفاء بنت عبد الله القرشية، وحفصة بنت عمر بن الخطاب، وعائشة بنت سعد بن أبي وقاص، وكريمة بنت المقداد، وهند بنت أبي سفيان..، وبرز في كل مرحلة تاريخية بعض الخطاطات اللائي جودن الخط حتى صار بعضهن أساتذة هذا الفن، مثل فاطمة بنت الحسن، والكاتبة البغدادية. ويقول محمد طاهر كردي: “إن في خطوط الرجال والنساء فرقاً قد لا يظهر لكل إنسان، فان كانت المرأة حسنة الخط كان في خطها رونق ورشاقة أكثر من خط الرجل الذي يماثلها، وإن كانت كتابتها على حسب المألوف كان خطها إلى الرقة أنسب وخط الرجل إلى المتانة أقرب.
الخط العربي عند غير العرب:
استطاع الخط العربي أن يطير بجناحيه إلى أبعد الأفاق وأن يحقق في هذه الرحلة انتصاراً مذهلاً فقد تثاقف مع الأمم التي حل فيها ضيفاً فأعطى صورة جديدة وأبدع فيها غير العربي الذي مدّ يده لهذا الحرف مستضيفاً برحابة صدر وعشق لا نظير له حتى أن كثيراً من أمم الشرق نسيت الكتابة بحروفها الأصلية. إن خط (التعليق) هو من إبداعات الفرس وإن الطغراء والديواني هما من ابتكار الخطاطين الأتراك الذين يمثلون مدرسة مستقلة ذات شهرة متميزة في خط الثلث فنالوا احترام الخلفاء الذين أسندوا إليهم العمل في الدواوين برواتب مغرية. وفي الفترة المتأخرة من الخلافة العثمانية برز خطاطون أطبقت شهرتم العالم الإسلامي برمته وأولهم حمد الله الأماسي الذي يعد إمام الخطاطين الأتراك، والثاني: عثمان الذي كتب خمسة وعشرون مصحفاً بيده. وظهرت في ساحة الخط العربي في تركيا أسماء خطاطين احتلوا الصدارة إلى الآن ومنهم: عبد الله الزهدي وأحمد كامل.. وغيرهم.
أما في أوربا فقد دخل الخط العربي إليها من عدة محاور:
– عن طريق آسيا الوسطى وبعد دخول المسلمين مدينة القسطنطينية.
– عن طريق الحملات الصليبية المتكررة على مشرق العالم العربي ومغربه.
– عن طريق الأندلس بعد الفتح العربي الإسلامي لها.
– ودخلت أنواع الخط العربي متاحف روما وباريس وأمستردام مما دعا الأديب الفرنسي (مارسيه) إلى القول: “لقد كانت الحضارة العربية الإسلامية شديدة التغلغل في عالمنا حتى أن العناصر الإسلامية طغت منذ نهاية القرن الحادي عشر في واجهات الكنائس”.
وبعد.. فقد أعطى الخط العربي ملامح حضارتنا الأصلية، وبقي تراثاً مجدداً باستمرار، قدَّم ابتكارات غاية في الروعة، وضاهى في جماله خطوط الأمم، وخبأ كنوزاً فنية أعطت البشرية معيناً لا ينضب، وقد عدّ – كانت- الزخارف العربية أجمل من غادة حسناء، وتكفي شهادة بيكاسو: “كلما توصلت إلى اكتشاف في التجريد الفني وجدت أن الخطاطين العرب قد سبقوني إليه”.
ولعل الخط العربي هو الفن الوحيد الذي لازال يمثله في العصر الحديث رجال في مختلف أرجاء العالم العربي، ولهم آثار خطية تفوق بجمالها ما أخرجه القدماء، كالحافظ عثمان الذي كتب المصحف الشريف في أوائل القرن الثاني عشر الهجري، ونجيب الهواويني، وبدوي الديراني، ومحمد قنوع،… وغيرهم. وجاءت أجيال من الخطاطين تتبارى في إبداع أجمل الخطوط حتى أخذ مسألة الذوق دوراً هاماً فاق الالتزام بقواعد محددة.
المراجع:
أولاً : الكتب:
1 – صبح الأعشى، أبو العباس القلقشندي، القاهرة، 1985م.
2 – تاريخ الخط العربي، صلاح الدين المنجد، بيروت، 1979م.
3 – تاريخ الفن عند العرب، أنور الرفاعي، دمشق، دار الفكر.
4 – الخط العربي أرقى الفنون، أنور الرفاعي، دمشق، دار الفكر.
5 – الخط العربي، حسن المسعودي، باريس، 1981م.
6 – مقدمة ابن خلدون، مصر، المكتبة التجارية.
7 – تاريخ الخط العربي، محمد أمين الكردي.
8 – روح الخط العربي، كامل البابا.
9 – طبقات ابن سعد. 10 – الإتقان، السيوطي.
11 – الوزراء والكتاب، الجهشياري.
12 – البداية والنهاية، ابن كثير.
13 – فكرة عن الخط العربي، حلمي حباب.
ثانياً : الدوريات:
1 – تكوين الخط العربي، سحر الهنيدي، مجلة المتحف، إبريل 1987م.
2 – عبقرية العرب في خطوطهم، الغمري عقيل، مجلة الدوحة، العدد 95.
3 – عبقرية الخط العربي، علي أمين، مجلة الوحدة، العدد 90.
4 – الخط العربي أرقى الفنون، الدكتور أبو صالح الألفي، مجلة الفيصل، العدد 209.
5 – قبسات من تاريخ الخط العربي، نعيم الجردي، مجلة بناة الأجيال، العدد 43.
6 – تأملات في الخط العربي، أحمد غانم، مجلة الكويت، يونيو 1985.
7 – المرأة وفن الخط، علي البداح، المرجع السابق، يونيو 1999م.
8 – علوم الخط والزخرفة، تيسير حباس، مجلة المعلم العربي، العدد الثالث، 1998.
9 – عبقرية الفن في الخط العربي، عيسى فتوح، مجلة الحرفيون، العدد 181.
10 – جمالية الخط العربي، علاء الدين حسن، مجلة جيل الثورة، إبريل، 1987.
11 – الخط العربي.. أصله وأنواعه، محمد غنوم، مجلة المعلم العربي، العدد الثالث، 1996.
12 – فن الخط، الدكتور محمد قبيسي، صحيفة الثورة، أغسطس 1991.
13 – الخط العربي فن تشكيلي، علي أمين، صحيفة البعث، أغسطس 1991.
14 – الخط العربي عند غير العرب، أحمد شوحان، صحيفة الثقافة، مارس 2001.
15 – دراسات للناقد طارق الشريف، صحيفة تشرين، نوفمبر 1982.
مجلة رؤى العدد السادس عشر السنة السادسة – جمادي الآخرة – رجب 1426هـ – 2005م