لقد سطر الحرف العربي عبر التاريخ سطوراً ناصعة خالدة بقيت على مر السنين، وكل هذا بفضل رجال أفنوا عمرهم في حفظ هذا التراث الخالد وحملوا الراية وساروا بها متخطين كل الصعاب من أجل أن يسلموها بكل أمانة وإخلاص للأجيال القابلة … ولقد برز من هؤلاء الرجال اثنان عظيمان تركا بصمة واضحة في هذه المسيرة، إنهما حامد الآمدي وهاشم البغدادي … وعلى الرغم من أن هاشم قد أجيز من حامد مرتين … إلا أن ذلك لم يمنع أن يجتهد هاشم ليعطي نماذج خطية تضاهي بجمالها ما خطته يد حامد، وإن كانا اتفقا في كثير من السمات وأبرزها العبقرية الخطية والنزعة الفنية التي أوصلتهما إلى تلك المكانة في عالم الحرف العربي …
إننا ومن خلال السطور التالية سنلقي الضوء على لوحتين لنص الآية الكريمة (فإذا عزمت فتوكل على الله)، إحداها وتبرز في اللوحة (أ) للخطاط هاشم محمد البغدادي، واللوحة (ب) خطها الخطاط حامد الآمدي؛ وذلك للمقارنة بوصفهما تركيبيين دائريين بخط الثلث للنص نفسه. وذلك للكشف عن مواطن الاتفاق والاجتهاد في توظيف خصائص خط الثلث بينهما.
وصف اللوحة (أ)
تتضمن هذه اللوحة تركيبة دائرية لنص الآية المذكورة، تبدأ قراءة النص من الجانب الأيمن من الجهة السفلى للتركيب. تم توزيع الحروف والكلمات على نظام تعدد أسطر الكتابة مع توظيف العلامات الإعرابية والتزيينية لملء الفضاءات الداخلية المتحققة بين الحروف والكلمات؛ لتحقيق الإغلاق الشكلي الدائري للتركيب فضلاً عن استثمار توقيع الخطاط وسنة كتابة المخطوط لذلك أيضاً.
ويمكن ملاحظة الإتقان الفائق في هذه اللوحة لقواعد الخط وإعطاء كل حرف حقه من الانتصاب في (الألفات) الصاعدة، والتسطيح كحرف (التاء) في كلمت (عزمت)، والإرسال المعكوس في الألف المقصورة (على). كل تلك المعاني تدل على حسن الأداء وبراعة القياس المتمثلة بتطابق الأجزاء المكررة للحروف كحرف (العين) وحرف الفاء وتراويس الألف المتشابهة.
أما من حيث توزيع المفردات الخطية (الحروف والكلمات والمقاطع )؛ فتم توزيعها على قواعد التصميم المنطلقة من التوازن الذي تبلور في طريقة توزيع العلامات الإعرابية وتخللها في أجزاء التركيب لملء الفضاءات، وإحداث نوع من التنوع والتباين مع الحروف؛ وذلك عن طريق الحجم بينها وبين حجم حروف التركيب. إذ استثمر الخطاط خصائص الثلث من خلال التراكيب للحروف والكلمات بعضها مع بعضها الآخر لاستحداث هيئة مبتكرة وتوظيف المدات الأفقية والعمودية الصاعدة للمحافظة على الترتيب المكاني والزماني للكلمات من خلال جعل كلمة (عزمت) قاعدة لانطلاق معنى الآية لتأتي بعدها كلمة (فتوكل) واستقرار لفظة الجلالة في أعلى التركيب لما تحمله من دلالة قدسية. كل تلك الاعتبارات أتت من روح الخطاط وما يعبر عن ذاته لتحقيق عمل خطي ذي نتاج وظيفي وجمالي رائع.
وصف اللوحة (ب)
تتضمن هذا اللوحة تركيبة دائرية للآية المذكورة نفسها للخطاط حامد الآمدي، وأبرز ما يمكن ملاحظته في هذه التركيبة الإجادة الفائقة لقواعد الحروف فهي أروع ما تكون من حيث الإتقان والدقة .
أما من حيث تصميم هذه اللوحة، فعلى الرغم من أنه دائري كاللوحة (أ)، ويحمل نفس النص لكنه يختلف من الناحية التصميمية جذريا عنها، إذ نلاحظ هندسة تصميمية بديعة في طريقة توزيع الحروف والكلمات، وتناسق بعضها مع بعض بصورة عالية من دون الإكثار من العلامات التزيينية في المحافظة على تحقيق الإغلاق الشكلي للتركيب. فإمكانية الخطاط التصميمية أعطته قدرة الموازنة الفائقة في استقرار الكلمات والحروف، فقراءة التركيبة تبدأ من (فإذا عزمت) التي استقرت في أسفل التركيب ويليها كلمة (فتوكل ) والتي استقرت فوق كلمة (عزمت) بشكل منتظم جداً، أما كلمة (على) فقد وظفها الخطاط على ربط أجزاء التركيب بصورة واضحة من خلال امتدادها من الجانب الأيسر إلى الجانب الأيمن بصورة مستقيمة؛ لتعمل على موازنة نصفي التركيب العلوي والسفلي لاسيما عند التقائها أو تقاطعها في وسط التركيب عند حرف الألف لتقسم التركيب إلى أربعة أجزاء متوازنة بنقطة مركزية، أي وسط العمل؛ وذلك لإحداث موازنة كبيرة بين الحروف الصاعدة (الألف واللام) على طرفي المحور المركزي لحرف (الألف) للفظة الجلالة.
إن الهدف من تحليل هذين النموذجين المتطابقين من حيث النص والشكل الهندسي الدائري ولخطاطين معاصرين من حيث الزمن. وبعد هذه القراءة يمكننا أن نستنتج بعض الملاحظات التي يمكن عدها خلاصة لنتاج فني سابق أي (مدرسة إذا صح التعبير) من حيث توزيع المفردات الخطية نفسها في تركيبة دائرية أي تصميم تلك المفردات داخل بنية خطية مبتكرة:
1- من حيث القاعدة الخطية نجد رشاقة حروف اللوحة (ب) عن اللوحة (أ).
2- استقرار لفظة الجلالة (الله) على السطر في اللوحة (أ) بشكل مائل (ومفروك) إلى الجانب الأيسر عن اللوحة (ب).
3- استلقاء حرف الياء ونزولها من (الألف اللام) (الصاعدة) كل حسب ما يراه مناسباً ففي اللوحة (أ) تنزل بصورة مائلة تتوازن مع حرف (العين) الأولى عكس اللوحة (ب).
تحليل اللوحتين
عندما نقسم الشكل الدائري إلى أربعة أقسام متساوية نجد إن اللوحة (ب) قد اعتمد الخطاط فيها المقومات البنائية لحروف الثلث من خلال طريقة توزيعه للكتل الخطية على أقسام الدائرة الأربعة بشكل متساو. فضلاً عن حسابه لطريقة توزيعه (الألفات) الصاعدة وجعلها بشكل متساو على مساحة التركيب بالنحو الأتي: (الآلفات في جهة اليسار) يقابلها (ألفات في جهة اليمين) ويتوسط الدائرة (ألف) واحد ليقسمها إلى نصفين متساويين نسبياً، ومن ثم تأتي سحبة (الياء) المركبة الراجعة إلى اليمين لتنصف الدائرة أفقياً وتصبح الدائرة أربعة مراكز تم توزيع المفردات الخطية بشكل فني ومتوازن شكلياً. فإذا قسمنا ما ذكر على اللوحة (أ) نلاحظ تكتل الحروف والكلمات في الجانب الأيمن فلجأ الخطاط إلى الإكثار من العلامات الإعرابية والتزيينية على الجانب المقابل لخلق موازنة شكلية على طرفي المحور هذا من جانب ومن الجانب الآخر هناك غموض في قراءة النص فبداية النص غير واضحة وذلك خلافا للاندماج الحاصل بين كلمتي (فإذا) و (عزمت) بشكل غير منسق فالمقطع (فا) يعلو ويتابع مع ما بعده المقطع (عز) عن جزئه المكمل له (مت) سبب غموض أكثر وزاد على الإشكال وجود النقطة الدائرية فوق حرف (العين) وليس فوق حرف (الزاي) مما أدى إلى تعقد في قراءة النص بصورة أكثر من السابق.
أما من حيث الاختلاف الأسلوبي لميزان الخط، فيمكن ملاحظة اختلافات فنية في طريقة رسم الحروف ويتضح ذلك عندما نرسم خطاً مستقيماً تحت كلمة لفظ الجلالة (الله) للشكلين فيمكن ملاحظة ميلان الكلمة في اللوحة (أ) بزاوية (10درجة) إلى جهة اليسار، وتم إشباع رسم حروفها في الكتابة وإعطاء كل حرف حقه من صدر القلم وإتمام أذناب الحروف، أما اللوحة (ب) فيمكن ملاحظة استقرار الكلمة على سطر الكتابة بدرجة مستقيمة وبزاوية مستقيمة (180درجة) وبحروف رشيقة تختلف رشاقتها عن اللوحة (أ).
وبرسم خط مستقيم آخر تحت كلمة (على) يمكن ملاحظة نزول بداية حرف الياء المركبة الراجعة إلى اليمين للوحة (أ) يتكون فضاء مقداره (نقطة واحدة) بنفس قلم الكتابة المستخدم في التركيب. ولكن عندما نكرر نفس الخط الوهمي على اللوحة (ب) يتكون لنا فضاء يقدر بأكثر من نقطتين، وفي مرتكز آخر في البياضات التي تتخلل الفتحات الموجودة في رأس حرف (الواو والفاء والميم) في اللوحة (أ) اصغر مما موجود في اللوحة (ب)، وكذلك اختلاف طريقة إشباع أذناب الحروف المرسلة (الواو) والمركبة المدغمة (الزاء) حقها من صدر القلم حتى تتساوى به. ففي اللوحة (ب) تم استئصالها والاكتفاء بذنب ذي نهاية رفيعة شعرية ترسم برأس السن الأيمن لقلم الكتابة. إن تلك المؤشرات أو المرتكزات تعد من الجوانب والاتجاهات المهمة في الجانب العملي التطبيقي لرسم حروف الثلث فالهدف من الإشارة إليها هو بيان الفرق الفني لرسم الحروف من خطاط لمدرسة إلى خطاط آخر ومدرسة أخرى.
يتضح من وصف وتحليل اللوحتين إمكانية حروف الثلث وقابليتها للتشكل، مما يعطي الخطاط حرية التصرف بطريقة رسم الحرف من الجانب الفني وإخراجها بهيئات يمكن أن نعدها هوية للمدرسة أو الخطاط الذي يملك الإجادة الفنية التامة لحروف خط الثلث، ويمكن أن نعد كل تلك الجوانب والمرتكزات من الخواص الفنية لخط الثلث التي أهلته بهذه الجوانب والصفات.
وإذا أخذنا لوحتين أخريتين وهما اللوحتين (ج ، د) بهيئة شريط كتابي يحملان نص الآية الكريمة (بسم الله مجريها ومرسيها إن ربي لغفور رحيم) للخطاطين هاشم وحامد نفسهما، وهما يمتلكان الإجادة الفنية في ضبط قواعد الثلث، واستثمار خصائصه في بناء هيئات خطية مبتكرة بأشكال وأحجام مختلفة.
اللوحة (ج): يتأسس الشكل العام للشريط هيئة مستطيل هندسي للخطاط هاشم محمد البغدادي. إذ يتألف بالأساس من سطرين متداخلين مع بعضهما كما يبدو، فالسطر الأعلى مركب على السطر الأسفل بصورة متراكبة من دون أي تعقيد أو تشابك. إذ تتصل الحروف مع بعضها بنقطة تماس لا تؤثر في شكل الحرف من الناحية الجمالية والفنية. لتزيد من عملية ربط وتماسك التركيب ويتبين لنا هذا في حرف (الميم مع الجيم) وحرف (الواو مع الميم ) و (الراء مع السين) و (والنون مع الغين) و (الراء مع الحاء) وهكذا مع بقية حروف الشريط. مما زاد حسن التركيب واستقرار حروفه المتصلة والمنفصلة. ويمكن ملاحظة ما ذكر في اللوحة (ج).
أما من حيث المقومات البنائية فقد استند الخطاط في طريقة توزيع المفردات على تنظيم الحروف والكلمات وفق تسلسل قرائي معلوم من دون أي تقديم أو تأخير لذلك، فضلا عن مراعاة موقع لفظ الجلالة وجعلها في الجهة العليا للجانب الأيمن من الشريط.
يمكننا دراسة هذه اللوحة عند رسم ثلاثة خطوط وهمية تمتد بشكل أفقي على طول السطر الكتابي، إذ يتضح لنا ظهور ثلاثة مستويات من الكتابة الأول في الخط الوهمي رقم (1) الذي تستند عليه اغلب المقاطع والكلمات الثقيلة للشريط، وخُصص الثاني لاستقرار كلمة (لفظة الجلالة ) ليُشكل مستو ثان للشريط وتحدد موقعها بالنسبة لكلمات المستوى الأول، أما الخط الثالث فهو أعلى مستوى في الشكل فاستندت عليه بقية مقاطع وكلمات النص، إذ استثمر الخطاط المساحة المعدة للنص بطريقة موفقة خلقت لنا العلاقة الاتجاهية ما بين الحروف ومقاطع الكلمات بصورة فنية مدروسة لتحقيق انسيابية عالية في اتجاه الحروف والكلمات من حيث التوزيع الذي نسق بزاوية (45) درجة، لتظهر لنا خمس زوايا تحقق علاقة التناسب في الاتجاه، وتخلق لنا نسقاً بديعاً في تحديد اتجاه الحروف والمقاطع بالنسبة إلى الشريط الكتابي، كما في اللوحة (ج)، حيث استناد رأس حرف (الباء) وحرف (اللام) ومنتصف حرف (الميم البدائية) ونهاية حرف (الراء المجموع) على الزاوية رقم (2)، واستناد (حرف الألف) ونهايــة (حرف الراء المجموع) ونهاية (الهاء الحاجبي) على الزاوية رقم (3)، واستنــاد (الراء المجمــوع) و (النون المجموعة) على الزاوية رقم (4)، واستنــاد (حـرف الراء المجمــــوع) و (حرف الواو المجموع) على الزاوية رقم (5)، فان مجموع تلك الزوايا جعلت من التركيب ذي انسيابية عالية في استناد الحروف والكلمات على زاوية (45 درجة) من خط القاعدة، فضلاً عن خلق علاقة الوحدة في نهايات الحروف النازلة المتمثلة بـ ( الميم والراء والواو والراء والنون والواو والراء) وظهورها بصورة مجموعة.
واستثمر الخطاط خصائص الثلث بربط مفردات الشريط من خلال سحبة حرف (الباء) الراجعة بشكل أفقي ومعكوس ومرورها بثلاثة تقاطعات للحروف الصاعدة من دون أن تؤثر في شكل الحرف الجمالية، ولتكون مركز استقرار حرف الراء المرسلة والعلامات الإعرابية والتزينية عليها، فتوظيفها كان ضرورياً لأن عدمه يجعل التركيب يعاني من إشكالية الانفكاك والتجزئة.
اللوحة (د): تتضمن هذه اللوحة نفس نص اللوحة الأولى ونفس الهيئة، ولكنها للخطاط حامد الآمدي، فتصميم الكلمات بالنسبة لمواقعها لهذا النموذج يدرك بشكل لا يقبل الشك بقدرات الخطاط الفائقة في طريقة رسم الحروف وإخراجها بشكل متقن كما تبدو وكأنها قطعة واحدة، وذلك من خلال هندسة الخطاط بتقليص حجم التركيب الكلي وبتقليص المسافة بين الحروف والكلمات أكثر مما هو عليه الآن.
حرص الخطاط على الحفاظ على التسلسل القرائي الصحيح واستثمار خصائص حروف الثلث في اللوحة (د) بطريقة مختلفة وأسلوب ثان عما وظفه الخطاط في اللوحة (ج) .
والهدف من تحديد الاتفاق والاجتهاد في هاتين اللوحتين هو بيان اعتبارات عدة أهمها: توضيح إمكانية حروف خط الثلث في المطاوعة العالية بتقبل التركيب والتشكيل وان كان لشكل واحد ولنفس النص (المضمون)، أما الاعتبار الآخر فيمكن ملاحظة فروق فنية عدة بين اللوحتين لتوضيح إشكالية بأنه يمكن أن تكون هناك فروق أسلوبية بين الخطاطين على صعيد المدرسة الواحدة أو البلد الواحد، أما الحال في هذه العينة فالخطاطين مختلفين من حيث البلد والمدرسة والأسلوب، فظهور بعض الاجتهادات الفنية بين أجزاء الحروف تعد من العوامل المهمة لتحديد مدرسة أو أسلوب لخطاط آخر وتلك الاتفاقات والاجتهادات هي:
1- رشاقة حروف اللوحة (ج) بصورة عامة من الحروف المنتصبة والمنحنية والمستلقية وغيرها من الحروف بشكل واضح عن اللوحة (د) الذي تبدو حروفه أكثر عرضاً وغلظاً.
2- انفتاح الهيئة الكلية للشكل العام في اللوحة (ج) بصورة أشبه بالانفكاك عكس اللوحة (د) الذي تظهر فيها الحروف والكلمات ملموسة ومنكمشة إلى الداخل.
3- حرص الخطاط في اللوحة (ج) على إظهار أذناب الحروف وإشباع الحرف من طول وقصر وغلظ كما في أذناب الحروف المجموعة، وهذا ما يختلف في اللوحة (د) فحرص الخطاط على الاكتفاء بترشيق ذنب الحرف وجعله يمتد بطرف السن الأيمن للقلم.