لا أتخيل – وأظنك معي عزيزي القارئ – أن تقوم حضارة أو نهضة في يوم وليلة، إنما هي تراكمات تطور وازدهار علمي تبنى لبناته واحدة تلو الأخرى، ولا أكاد أتصور أن يقوم علم كامل بكل قواعده ونظرياته في لمحة خاطفة أو في طرفة عين، إنما تتطور العلوم والفنون من خلال النظر إلى نتاج الأولين ومن ثم إضافة مستحدثات جديدة وتعديلات وتحسينات تساهم في ذلك التطور والازدهار.
ولفن الخط العربي نصيب كبير في هذا الباب، فما بدأه مقلة وابن البواب وياقوت المستعصمي وقِبلة الكُتَّاب الشيخ حمد الله الأماسي، لم يكن إلا تأسيساً لبنيان فن الخط، ومع سحر خطوطهم في زمنهم، إلا أني أزعم – بل أجزم – بأن خطوط شباب الأتراك الآن، وبعض خطاطي العرب تربو عليها من ناحية المستوى الجمالي، ويبقى الفضل للأوائل في وضع اللبنات الأولى، ويأتي بعدهم من يعلي البنيان ويضع اللمسات التجميلية حتى وصل الخط العربي إلى مرتبة يحسدنا الغرب عليها، وذلك من خلال السير على خُطى الأوائل وتقليد كل ما كتبوا حتى تتشرب اليد مهارة الكتابة وصار التقليد باباً من أبواب التدريب الخطي، فيكتب التلميذ مقلداً نماذج الأساتذة بداية من الحروف المفردة ثم المثناة ووصولاً إلى الكلمات فالجُمل بل تعدى التقليد هذه المرحلة وأصبح فناً قائماً يبين مهارة الخطاط في تقليد تراكيب خطية مشهورة لأساتذته أو حتى لمعاصريه تقليداً يصل حد المطابقة التامة كما في لوحة “واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا” التي قلد فيها محمد حداد أستاذه محمد حسني، كذلك ما كتبه عثمان أوزجاي في لوحة: “ومبشراً برسولٍ يأتي من بعدي اسمه أحمد” مقلداً فيها الخطاط العظيم سامي، واشتهرت لوحات كثيرة قام الخطاطون بتقليدها وعلى رأسها: “فالله خيرٌ حافظاً وهو أرحم الراحمين”، كذلك سورة الفاتحة بالثلث بخط مصطفى راقم، ولوحة “رب يسر ولا تعسر” للخطاط علي أفندي.
ويصل التقليد غاية الأمانة حينما تجد توقيع الخطاط القديم على العمل الجديد بل تجد تاريخ اللوحة – وكل تفاصيلها القديمة – ماثلاً أمامك كأنها بخط صاحبها الأول، ثم بمنتهى التواضع والأمانة التاريخية والالتزام العلمي يُكتب تحتها وبخط رفيع نقله فلان أو كتبه فلان مقلداً أستاذه فلان، ووصلت المحاكاة التامة إلى درجة نقل اللوحة حتى بأخطائها عند بعض من لا يجيد العربية!
وعن انتقال التقليد من مجرد تدريب ودخوله دائرة الفن نجد في كتاب “فن الخط”: “… غير أن طبيعة التقليد والمحاكاة قد اختلفت مع مرور الزمان وأصبح الخطاطون مع تطور فن الخط وتقدمه يتحاشون التشبه في الكتابة بأساتذتهم، ومع ذلك فقد يرغب أحد الخطاطين الكبار في إبراز مهارته في مجال لم تجر عليه يده، فيحاكي أستاذاً قديماً وهو في قمة نضجه الفني حتى لو كانت الطريقة تخالف طريقته، فكان العماد الحسني يقلد مير علي، وكان الحافظ عثمان يقلد الشيخ حمد الله،.. وذلك على الرغم من أنهم جميعاً كانوا قد بلغوا مراحل متميزة في الخط، وقد يصعب الأمر كثيراً، لاسيما إذا كانت الكتابة المقلدة ليست على سطور مستوية وتداخلت الحروف فيما بينها وتقاطعت في مواضع كثيرة حتى أصبحت عسيرة المنال مثل: قطع التسويد، وتعد قطع التسويد التي مشقها إسماعيل الزهدي بخط الثلث محاكاة لخط الشيخ حمد الله أوضح الأمثلة على ذلك، ولم يحدث أبداً في كتابات التقليد والمحاكاة تلك أن وضع أحدهم عن طريق “الشف” ورقة فوق الكتابة الأصلية وحاول استخراج نسخة مطابقة لها، وقد أولى شيوخ الخط عناية كبيرة لكتابات التقليد والمحاكاة هذه وكان منهم من تحاشى التصحيح في الكتابة، وفضل في عملية النقل هذه التي تجري بقدرة العين واليد فحسب استخدام المداد الثابت بدلاً من مداد السناج الذي تسهل إزالته من على الورق باللعق أو الكشط، لأن الغاية هي الكشف عن القدرة على التقليد والمحاكاة دون الحاجة إلى تصحيح الكتابة”.
وعن أهمية التقليد في حياة الخطاط يقول سيد إبراهيم: “كل خطاط في أول حياته لا بد وأن يقلد أمشقاً من أمشق معلمي الخط ثم يبدأ في تقليد كتابتهم، ويتقلب في تقليد الخطاطين حتى ينفرد بعد ذلك وتصبح له شخصية خاصة، والخط يأتي بالتدقيق بالنظر، ثم الممارسة باليد، فالصور الجميلة للخط تنطبع في الذهن ثم تكون كثرة الكتابة مساعدة على التجويد بعد الالتزام بقواعد الخطوط التي يكون من تأثير ذلك كله ظهور شخصية خاصة للخطاط وأنا شخصياً قلدت راقم وشوقي وغيرهما”.
وقد يكون التقليد في الخط لدراسة أسلوب أحد الخطاطين وتكملة بعض أعماله حتى يظهر العمل بروح واحدة ونسق متشابه.
من ذلك ما يرويه محمد عبد القادر أنه مر على لافتة كان قد كتبها وهي لصاحب محل أراد تعديل كلمة في اللافتة فلجأ للخطاط خضير البورسعيدي لعمل التغيير اللازم والذي قام بدوره بدراسة أسلوب محمد عبد القادر في الكتابة، ولما مر عليها عبد القادر أعجب بأنها تجددت في ألوانها، ولكنه اعتقد أن التعديل كان ضمن الكتابة القديمة، ولما عرف تعجب من دقة التقليد، وثمة موقف آخر بينهما حدث في مدرسة تحسين الخطوط العربية حينما قام محمد عبد القادر بتشكيل سطر بخط الثلث لخضير بناءً على طلبه على السبورة، وفي اليوم التالي كتب خضير سطراً بالثلث مشابهاً للأول وقام بتشكيله بأسلوب عبد القادر فلما مر عليه قال: لماذا لم تمسحوا كتابة أمس؟ ثم تعجب لما علم أنها كتابة جديدة ودهش من دقة التقليد والتشكيل.
وفي كتاب “دراسات في الخط العربي وأعلامه” لفوزي سالم عفيفي: “ومن المداعبات التي بينت إبداع الفنان محمد سعد حداد أنه كتب قطعة خطية متبعاً أسلوب الخطاط محمد حسني وطريقته في كتابة الحروف، ثم كتب عليها توقيع حسني وأراه إياها وأوهمه أنه وجدها عند أحد الأصدقاء، فلما رآها وتمعن في حروفها وتكوينها قال: “هذه اللوحة أنا كتبتها منذ زمن ولم أعد أذكرها”، فلما قال له حداد أنه هو الذي كتبها وقلد توقيعه، صارت مزاحاً، وهذه اللوحة كانت “وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها”.
ودراسة أسلوب الكتابة لأجل التقليد قديمة جداً – وفيما أعرف – نجد أن حمد الله الأماسي قام – بناءً على طلب السلطان – بدراسة أساليب الخط عند سابقيه لاختيار أفضل السمات الكتابية للحروف، وليس لأجل التقليد فقط، وهذا علي أفندي الخطاط التركي وهو من الذين برعوا في كتابات التقليد لمجرد إرضاء ذوقه الخاص، كان يقول لتلاميذه بين يوم وآخر: “هيا ولنكن اليوم مثل راقم” أو “هيا ولنكن اليوم مثل جلال الدين”.
وأسلوب الأستاذ يتضح جلياً في خط التلميذ من خلال تقليده فيخرج خطه يحمل -إن جاز التعبير – نفس الصفات الوراثية لخط المعلم، وهذا الحكم ينطبق على خط أسماء عبرت التي كان خطها صورة طبق الأصل من خط معلمها – وزوجها فيما بعد – محمود جلال الدين.
والتقليد في الخط غير التقليد في الفن أو في الأدب ففي الخط قد يقلد الخطاط اللوحة بكل تفاصيلها: نصاً وتركيباً ونوع خط حتى إنه يضع توقيع الخطاط الأول وتاريخ كتابة اللوحة – وقد لا يفعل – ومع هذا لا يعد ذلك من قبيل السطو أو السرقة، فالمجال مفتوح واللوحة الأصلية معروف صاحبها ويتم التقليد بغرض التدريب أو اقتفاء الأثر أو تخليد أعمال كبار الخطاطين.
ففي كتاب “فن الخط”: “إن التقليد والمحاكاة في الخط أمر يختلف تماماً عما هو عليه في فن الرسم والنحت ومع أننا نشاهد كثيراً أيضاً من يقومون بأعمال النسخ والتقليد بقصد التزوير، ولكن التقليد الذي نتحدث عنه هنا هو التقليد المباح المشروع في فن الخط وذلك على عكس ما في الفنون الأخرى كالزخرفة والمنمنمات وغيرها، فالتقليد في الخط بعيد عن سوء النية والاحتيال”.
وقد يكون التقليد في الأدب سرقة إذا كان المقلِّد ينقل النصوص ويدعيها لنفسه دون إعمال لفكره بل يسطو على إنتاج غيره فينقله مع تغيير في أسماء شخوص القصة أو بعض ألفاظ القصيدة أو بعض مصطلحات المقال، ومن هذا الباب ما ذكره وردّ عليه الأستاذ أحمد زكي باشا في مقدمة “الأدب الكبير” لابن المقفع في حديثه عن كتاب الأدب الصغير حيث قال عن الكتاب: “… نال من الرواج ما جعل بعض البُله المتطفلين يقلده بلا خجل، وفاته أن التكحل غير الكَحَل، لعمري إن هذا التقليد لا يسؤونا مطلقاً، فالعاجز المزوِّر إنما يتسكع في تقليد البضاعة المقبولة ليكسب من وراء جريرته السحت والحرام…”
ونفس التسلق والوصولية نجده أيضاَ في الفن حيث المدَّعين يقول مصطفى فروخ في كتابه “الفن والحياة”: “هذا شأن العلوم والفنون كلها، ولكن يريد الكسالى بحذلقتهم وطول لسانهم وقصر باعهم أن يقنعوا العالم أن باستطاعة الإنسان أن يكون مثلاً شاعراً كشكسبير أو المتبنى من غير حاجة لدرس اللغة، وباختصار يريد الكسالى أن ينام أحدهم عند المساء ويستيقظ صباحاً وهو فنان عبقري كرامبرانت ورينوار، ترى أحدهم يصور لوحة ما وهو لم يدرس قط فإذا ما سألته ما هذا؟ قال: في الفن لا يسأل عن شيء، هو إحساس وقشعريرة، لقد أحب الفنان “ترنر” النور وسكبه على لوحاته فإذا هي تفيض شعاعاً، فجاء بعض دجَّالي الفن اليوم وترك اللوحة تكاد تكون بيضاء ثم قال: آه! النور! النور والفضاء الفسيح، وأحب الفنان الأشهر رامبرانت الظل، فجاء أحد مستغلي الفن اليوم ودهن لوحته كلها بالأسود وهتف: آه! الظل! الظل والتدجيل العظيم! إنها أحابيل، وإنه دجل، وإنها زندقة بارعة، هي إحدى صور هذا العصر بشتى ألوانه”.