عرفت الحضارة العربية ألواناً متعددة من الفنون منذ فجر الإسلام، تنوعت في إبداع جمالي، وصيغت بمفاهيم ميزتها عن باقي الأمم، وقد تفاعلت مع فنون أهل البلاد الأخرى التي دخلها الإسلام وانتشر فيها، وذلك في فن العمارة والموسيقى وغيرهما.
وينفرد الخط العربي بشكل متميز عن سائر الفنون الأخرى، فهو فن أصيل، يمتلك إمكانيات جمالية لا يمتلكها أي حرف في أية لغة في العالم، وقد جاء هذا التطور عبر زمن طويل، ساهمت فيه عبقريات فنية ساعدت على إثراء هذا التراث. والخط العربي معلم بارز من معالم الإبداع الفني عند العرب، استخدمته شعوب عديدة من أهل المشرق والمغرب والترك والفرس والهنود وأهل الملايو والأفارقة والمسلمين في البلقان وأوروبا.
وقد تبوأ الخط العربي هذه المنزلة الرفيعة المتميزة في التراث الحضاري، لأنه إلى جانب تعبيره الفني ينقل لنا الكلمة المقدسة ذات المعنى، فتتحد الثقافة بالفن فيصبح من أعظم وسائل المعرفة للإنسان.
ويرى الخطاط أحمد المفتي أن فن الخط العربي مر بتطورات عبر الزمن، فقد قام علماء ثقات بإجراء العديد من الدراسات، فثبت عندهم بالتمحيص العلمي أن الخط العربي قد تطور عن الكتابة النبطية، وأن عرب الجزيرة أخذوا كتابتهم عن أبناء عمومتهم الأنباط الذين هاجروا إلى جنوب البحر الميت وشرقه في القرن الخامس قبل الميلاد، وقد احتك أبناء مكة القرشيون بأبناء عمومتهم الأنباط الذين ورثوا خطهم من الآراميين، إذ كانت دمشق موطن الحرف يتعلمه الكبار والصغار في معبد “حدد” الآرامي، حيث طوروا الخط الآرامي وكتبوا به، وحين حمل التجار القرشيون بضاعتهم من خلال رحلة الشتاء والصيف إلى الجزيرة العربية كان الخط الآرامي النبطي أحد أهم العناصر التي حملها التجار، فكتبوا بهذا الخط بعد أن هذبوه وطوروه. حتى جاء الإسلام الذي عني بالخط عناية فائقة، وذلك من خلال القرآن الكريم، فارتقى في مسالك الفن حتى بلغ حد الإعجاز على يد المسلمين، وغدت له أشكال وأنواع وقواعد ورسوم وهيئات يعجز عنها الوصف.
ويؤكد الخطاط المفتي أن الخط العربي في أول الأمر اتخذ اسم المدينة والمكان، فكان الخط النبطي نسبة للأنباط، والخط الحيري والأنباري نسبة للحيرة والأنبار، والخط المكي ثم الخط المدني بعد الهجرة، ولما انتقل الثقل السياسي إلى العراق في عهد عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما انتقل الخط المدني الى الكوفة، وعرف بالخط الحجازي إلى أن جوَّد الكتاب في الكوفة أقلامهم وهندسوا أشكال الحرف.
وقد تميز عن خط الحجاز وأطلق عليه اسم الخط الكوفي، وقد ذاع صيته في الأقطار والأمصار في حين اتخذ الخط في العهد الإسلامي شكلين الأول يابس والثاني لين؛ فاليابس هو الذي تطور عنه الخط الكوفي، واللين هو الذي تطور عنه خط النسخ. كذلك فاليابس هو للكتابة الجليلة العظيمة والذي كتبت به المصاحف الأولى، واللين للتدوين اليومي وكتابة الرسائل وغير ذلك من شؤون الحياة اليومية.
ويرى الباحث والخطاط السوري المعروف أحمد المفتي أنه إذا كانت الكوفة قد طورت الخط المدني وأخضعته لقواعد الصنعة، فإن دمشق قد دفعت به مراحل نحو التقدم والتحسين ونتج عن ذلك طريقة خاصة أطلق عليها الخط الشامي الذي ذكره أبو حيان من طرائق الخط الكوفي، وكان من الطبيعي أن يظهر الخط الشامي في دمشق أيام الأمويين عاصمة الملك، بالإضافة إلى ذلك ظهرت طرق جديدة من الخط الكوفي في الأقاليم المفتوحة. فمنذ افتتاح مصر سنة 22هـ انتقل إليها الخط المدني ثم الخط الشامي مع الفاتحين، وأنشأ عقبة بن نافع سنة خمسين للهجرة مدينة القيروان، فما لبث أن ظهر فيها الخط القيرواني الذي ذكره أبو حيان في رسالته، وابن خلدون في مقدمته.
فانتقال الخط إلى شمال أفريقيا كان عن طريق المدينة أولاً والشام ثانياً، ومنذ تأسيس القيروان سنة 50 هـ وحتى سقوط الدولة الأموية سنة 132هـ كان الخط القيرواني قد انطلق وثبت وتطور، ولم يدخل في ذلك الخط الأندلسي لأنه ظهر بعد فترة طويلة من سقوط الدولة الأموية وبعد مبايعة عبد الرحمن الداخل في قرطبة سنة 139هـ.
وعن تطور شكل الخط العربي وهيأته يؤكد الخطاط المفتي على أن التطور الأول للخط العربي كان على يد أبي الأسود الدؤلي بإرشاد من الخليفة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقد كان أبو الأسود أعلم عصره بكلام العرب، وهو واضع علم النحو على الصحيح، وقد سمع قارئاً يتلو القرآن الكريم “إن الله بريء من المشركين ورسوله” فقرأ بجر اللام من كلمة رسوله، فأفزع هذا اللحن أبا الأسود وقال: “عز وجه الله أن يبرأ من رسوله” وجلس بين يدي أمير المؤمنين علي رضي الله عنه مستمعاً إلى توجيهه وإرشاداته، ومن ثم ليقرأ المصحف على كاتب فلقنه فصيح اللغة، وأخذ يأمره بوضع نقطة حمراء فوق الحرف دلالة على الفتحة، ونقطة تحته دلالة على الكسرة، ونقطة بين يدي الحرف دلالة على الضمة ونقطتين دلالة على التنوين.
وقد كان هذا هو التطور الأول للخط لتوضوح أصول النحو، وكان هذا النقط هو إعراب الكلمة بالفتحة والكسرة والضمة، لا نقط الباء والفاء والثاء … وغيرها كما يتوهم بعض العامة. وتأتي أهمية العمل الذي قام به أبو الأسود الدؤلي من أنه شكل بدقة كلمات المصحف من أوله لآخره بالمنهج الذي وضعه، وهذا حدث هام في تاريخ الخط والقرآن والنحو والكتابة.
ثم كان التطور الثاني؛ وهو نقط الحروف المعجمة زمن الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان على يد مضر بن عاصم الليثي المتوفي سنة 89هـ ويحيى بن يعمر المتوفي سنة 126هـ؛ وذلك لما كثر اللحن وعظم التصحيف.
أما التطور الثالث؛ والمعجز للخط العربي فكان على يد العالم العبقري الخليل بن أحمد الفراهيدي المتوفي سنة 175هـ، وكانت الخدمة الجليلة التي قدمها هي ابتداعه التشكيل المعروف في هذه الأيام، وبذلك تخلصت الحروف من الألوان، وغدا الخط العربي في جمال وألق.
ويقول الخطاط المفتي: ما أن جاءت الدولة الفاطمية حتى نافست العباسيين في العراق بجودة الخط، وقد تقدم الخط العربي تقدماً عظيماً وأصبحت له مدارس عامرة، وأساتذة يعلمون الخط بعناية وتدبير. وقد ظل الحال كذلك حتى عصر المماليك، وبقيت بلاد الشام المعين الذي يرفد العالم الإسلامي بأجمل الخطوط.
فقد كان الخط يرقى ويتطور ويأخذ القيمة الجمالية في عهد السلاجقة عهد نور الدين الزنكي، وخلفه صلاح الدين الأيوبي.
من جهة أخرى، ارتفع شأن الخط العربي على يد الخطاطين زمن الدولة العثمانية، ووصل على أيديهم إلى قمة المجد والجمال، وقد فتحت له المدارس فكانت مدرسة تحسين الخط في الأستانة سنة 1326هـ، ومدرسة تحسين الخطوط في كل من الإسكندرية والقاهرة.
وقد أقبل على الخط الأمراء والملوك وخاصة الناس، وظهر على رأس المدرسة العثمانية شيخ الخطاطين وأستاذها الشيخ حمد الله “1429 ـ 1520هـ”، وكان يكتب بأسلوب ياقوت المستعصمي الذي طور أسلوبه، وبرع في خطي النسخ والثلث، وكتب القرآن الكريم بخط نسخي خالف فيه قواعد الأوائل، فجاء جميلاً مختزلاً. من بعده جاء الخطاط الحافظ عثمان الذي قام بعملية تشذيب وتهذيب لأسلوب الشيخ حمد الله فكان سيد النسخ بلا منازع.
هذا وقد بلغ الخطاطون في العهد العثماني حد الإعجاز في إتقان الخط، فظهر منهم عمالقة وأعلام أمثال: إسماعيل الزهدي ـ مصطفى الراقم ـ سامي أفندي ـ نظيف بك ـ عمر وصفي ـ أمين يازيجي ـ إسماعيل حقي ـ عبد الله الزهدي ـ حامد الأمدي ـ حليم اوزيازجي وغيرهم الكثير.
وقد ظهر في العهد العثماني أنماط جديدة لم تكن معروفة من قبل، مثل: الخط الرقعي، والخط الديواني والخط الديواني الجلي، وخط السياقت، وخط الطفراء، وخط قرمة تعليق، والخط السنبلي.
وقد اتخذت هذه الخطوط سبيلها في الحياة العملية، وأصبح الخط الذي نكتب به اليوم هو خط الرقعة وغدا خط النسخ خط الكتب والمطبوعات وغيرها.
في مطلع القرن الماضي ظهرت المدرسة الدمشقية في الخط العربي على أيدي مجموعة من الرواد الأوائل نذكر منهم: مصطفى السباعي ـ ممدوح الشريف ـ بدوي الديراني ـ سليم الحنفي ـ صبحي البيلاني ـ حسين صديق البغجاتي ـ محمد علي الحكيم ـ موسى الحلبي ـ الشيخ محمد الزرزور ـ حلمي حباب ـ رشدي الزيات ـ أبو خليل الزيناتي، والذين شكلوا رابطة نهضة الخط العربي الأولى، وقد زارهم من لبنان محمد أديب نشابة وهادي زين الدين من حمص… وقد وضع هؤلاء الرواد قواعداً للمدرسة الشامية في الخط، فكان خط التعليق يتسم بالفتنة الدمشقية بعد أن تجمل على يد الأستاذ بدوي الديراني، واختلف عن المدرسة الفارسية وقد اكتسبت الحروف على يديه الرشاقة المتميزة والتي لم يصل إلى مستواها الجمالي خطاطو الفرس والترك.
كما اتخذت حروف الثلث والكوفي على يد ممدوح الشريف رصانة وكمالاً لم تعرفه مدارس الخط الأخرى، في الوقت الذي اتخذ الخطاط الدمشقي الذي استقر في القاهرة حسني البابا ـ والد المطربة الكبيرة نجاة الصغيرة والممثلة سعاد حسني ـ تراكيب بخط الثلث أعجزت أساطين الخط في اسطنبول.
وإذا كانت دمشق عاصمة الخط آنذاك، فإن حلب فيها من جيل الرواد نذكر منهم: إبراهيم الرفاعي ـ المولوي ـ الصابوني ـ الدكتور بشير الإدلبي، وفي حماه عبد الرحمن الفاخوري، وفي اللاذقية جواد الخطاط، وفي حمص هادي زين الدين.
وجاء الجيل الثاني من رواد الخط العربي في سوريا نذكر منهم: الملحن الموسيقي زهير فيني ـ نجاة العلبي ـ زهير زرزور ـ عبده الصلاحي ـ عبدالرزاق قصباتي ـ وليد رجب ـ فوزي التوأم ـ أمين دياب ـ حسن الحمصي ـ حسن سمسمية ـ عبده لطف، تبعه جيل آخر نذكر منهم: محمود الهواري ـ محمد القاضي ـ عثمان طه ـ أحمد المفتي ـ أحمد عبد الباري ـ جمال بوستان ـ غياث كيلاني ـ علي حبيب، ثم أعقبهم جيل آخر يتمثل في كل من الاساتذة الخطاطين: شكري خارشو ـ عدنان سنقنقي ـ وليد محي الدين ـ محمد سالم نويلاتي – عبدالعزيز حبيب ـ مصطفى النجار ـ ومن حمص خطاطها الشهير محمد عدنان الشيخ عثمان ـ محمد فاروق الحداد ـ ومن دير الزور عبيدة البنكي.
وفي الصحافة ظهرت أسماء لامعة في سوريا منذ منتصف القرن الماضي أمثال: سهيل ميدع ـ ناجي عبيد ـ محمد قنوع الذي عمل جاهدا لإيجاد طابع فني للخط العربي يلائم الصحافة وعناوينها، فكان ان أدخل الحرف في طريق جديدة، وألبسه لباس الرشاقة وانتقى من حروفه ما يلائم الحداثة، فكان مدرسة متميزة تعلم عليها كل من جاء من بعده.
بقي أن نشير أخيراً إلى أن وزارة الثقافة السورية، أدخلت فن الخط العربي إلى المعرض السنوي للفن التشكيلي “معرض الخريف” منذ عام 1998 للتأكيد على أصالة وحضور الخط العربي ضمن الفنون التشكيلية العالمية الأخرى.