لم تتجل عبقرية الفنان العربي والمسلم في فن من الفنون بقدر ما تجلت في فن الخط العربي الذي ابتكره ذهنه الخلاق, ولم يستوح فيه فناً من فنون الأمم السابقة عليه أو المعاصرة له, بل أبدع فأحسن الإبداع, وابتكر فأحسن الابتكار, وأطلق العنان لخياله الخصب.
وقد كان الفنانون المسلمون والعرب فخورين بتعهدهم هذا الفن وصقلهم له بأنفسهم, فلم يلتمسوا فيه معونة غيرهم, بل إن خلفاء المسلمين وأمراءهم لم يجدوا في تباريهم في هذا الفن مع الخطاطين المحترفين ما ينزل من وقارهم وهيبتهم, فراحوا يلتمسون كسب المثوبة الدينية باستنساخ نسخ من القرآن الكريم بالحرف العربي الجميل الذي أُنزل به.
هذا الحرف الجميل قد أولاه الدين الحنيف كل اهتمام, فإن العديد من فواتح السور القرآنية الكريمة تبدأ ببعض الحروف, مثل: الم، كهيعص، ألمر، ص، ن، طه، يس …الخ.
وهل من تكريم للحرف أعظم من القسم به, وبالقلم الذي يكتبه, قال تعالى: {ن. والقلم وما يسطرون}, {اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم}.
سحر الحرف العربي:
لقد حيرت معاني هذه الحروف عقول الباحثين والمجتهدين فبعضهم اعتبرها رموزاً لا يعلمها إلا الله, وبعضهم فسرها حسب اجتهادات أخرى, وشرح معانيها حسب وجهة نظره. ولا شك أن هذه الحروف لها رموز وأسرار, قد يكون منها دفع المسلم إلى المعرفة والدرس والبحث.
إن الحرف يدل على ما في اللفظ, وما في اللفظ يدل على ما في الفكر, وما في الفكر يدل على ما في الروح, والروح تدل على عظمة الله ونوره.
من هنا جاء الاهتمام بتجميل الحرف العربي جملة وتفصيلاً, هذا الحرف الذي غدا يحتل مكانة رفيعة سامية روحانية, فظهر في العمارة وكأنه اللآلئ, مزيناً المساجد والمآذن والقصور من الخارج والداخل بآيات الذكر الحكيم, والعبارات المأثورة من أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم والحكم وغيرها.
إن جمالية الحرف العربي ومرونته الساحرة, ورشاقته الخاصة, بما له من أشكال متعددة, متصلة ومنفصلة, ولاسيما إمكانية كتابة عبارة واحدة بأشكال متنوعة, تحمل دوما المضمون الكريم نفسه.
كل ذلك فتح الباب أمام فناني الحرف للتنافس في تجميله وتزويقه وتطويره جمالياً باستمرار، فانطلق المبدعون وجالوا وتفننوا في صياغته وتركيبه في أنحاء العالم الإسلامي, فدرس الفنان المسلم تراكيب مختلفة مراعياً العلاقات التكوينية في دراسة الفراغات, فكان همه استمرارية ابتكار التكوينات التي تتآلف من انسجام الحروف وكأنها أصوات موسيقية مرئية تسمع بعينيك وبروحك صوت اللآلئ المرصوفة, حاملة الألفاظ القرآنية المباركة, ولم يكن غاية الفنان القراءة السهلة, بل كان يبدع في تراكيب وتآليف يغور فيها الناظر, ويرتع مكحلاً عينيه بجمالها, ويتنافس مع الآخرين في قراءتها وفك ألفاظها وحل أسرارها. إن فن الأمم هو مقياس حضارتها, والخط والعمارة والرقش هي رموز الحضارة العربية الإسلامية. ويؤكد الإمام علي رضي الله عنه على أهمية الناحية الجمالية في تغذية الناحية الاجتماعية الدينية إذ يقول: (الخط الجميل يزيد الحق وضوحاً).
إن هذا الفكر الساكن هو إشارة مبهجة, ومتعة بصرية, جمالية روحانية واجتماعية, تختلف عن أي صفة من صفات الجمال الأخرى, لذا فقد تجاوب الفنان المسلم مع دعوة الإمام علي -رضي الله عنه- المؤكدة على ضرورة الاهتمام بالخط, فنتج عن ذلك التفاني في دراسته, والسباق على تجويده, وتحسين هندسته.
حرف.. ومعنى:
إن هذا الفن البديع، المتفرد الجمال -فن الخط العربي- الذي يحوى من القدسية والجلال بقدر ما يشتمل عليه من متعة بصرية قل نظيرها, لم يتبوأ -هذا الفن- تلك المكانة السامية في الفن طفرة واحدة, ولم يبلغ هذه المنزلة بمحض الصدفة, بل اخذ سبيله إلى التقدم والارتقاء والإجادة مرحلة مرحلة حتى بلغ أوج الكمال.
والواقع أن الكلمة العربية تحمل شحنات وجدانية خاصة بها, وقدرة على استثارة الصور الخيالية والمعاني القيمية, وعندما نزل الوحي الإسلامي عربياً بث في الكلمة العربية إعجازاً إلهياً, فتحولت الكلمات إلى نوافذ تكشف المفاهيم الكامنة, صورة ومعنى وخيالاً, فكلمة (الله جل جلاله) أو (لا إله إلا الله) أو (ليس كمثله شيء) ليست كلمات تبعث معنى فحسب؛ بل هي تكشف طريقاً لا نهائياً للسير خلاله بواسطة الحدس مترقياً من اللفظ إلى المعنى, ومن التجريد إلى القيمة، بحيث يكون شكل الكلمة الجمالي في خدمة مضمونها الروحي, ومن خلال تذوق جمالي للوحة تعرض (البسملة) أو عبارة التوحيد عرضاً أساسه التداخل الهندسي الحر للخطوط والألوان، فسرعان ما تتوجه الكتابة بذهن القارئ لها من مجرد المتابعة الحسية لتداخلات الخط واللون إلى معايشة شعورية لمعنى البسملة أو لكلمة التوحيد, ومن هنا يكون التشكيل الفني مجرد أداة توجيه ونقل من محسوس إلى معقول، أو من حرف إلى معنى.
مميزات الحرف العربي:
يتميز الحرف العربي بالعديد من الميزات الأساسية التي يتميز بها عن غيره من الحروف لعل من أهمها:
– الإيجاز الشديد: وذلك لقابليته للاتصال بعضه ببعض, سواء أكان مكتوباً او مطبوعاً, وهذا غير إيجاز اللغة بلاغة, وغير إيجاز الشكل والإعراب، واللغة العربية معروفة ببلاغتها في الإيجاز وجوامع الكلم. ويمكن ملاحظة مدى إيجاز الحرف العربي الشديد من الجملة المكتوبة بالحرف العربي وما يقابلها بالحرف اللاتيني وبالبنط نفسه! ويؤكد هذا ما يرويه المستشرق (ريتر) أستاذ اللغات الشرقية بجامعة استانبول, وهو من المخضرمين الذين حاضروا قبل وبعد الحركة الكمالية, فقال: (إن الطلبة قبل الانقلاب الكمالي كانوا يكتبون ما أتلو عليهم من محاضرات بسرعة فائقة، لأن الحرف العربي اختزالي بطبعه, أما اليوم فهم لا يفتأون يطلبون إعادة العبارات مراراً, وهم معذورون فيما يطلبون, لأن الكتابة اللاتينية لا اختزال فيها… إن الكتابة العربية أسهل كتابات العالم وأوضحها، فمن العبث إجهاد النفس في ابتكار طريقة جديدة لتسهيل السهل وتوضيح الواضح).
– قابليته للتمديد والاستطالة: فللحرف العربي من خصائص المطاطية ما يناسب كل مقام, ويتفق مع كل مسافة ومساحة بحيث يمكن التحكم في كتابته, حسب الأحوال, وهو في هذا يختلف عن حروف أخرى جامدة وكأنها قدت من خشب, تكتب كاملة سواء اتصلت أو انفصلت لا يتغير شكلها بتغير موضعها.
– تنوع أشكاله: وهذه ميزة أيضاً تفوق فيها الحرف العربي على غيره.. فلكل صورة من صور الحرف, موقع واستعمال تدعو إليه الحاجة, اختزالية كانت أم جمالية عند الكتابة. وتميزت الحروف العربية على غيرها من الحروف بأن هناك حروفاً متشابهة الرسم، بحيث يمكن اختزال صور هذه الرموز إلى تسعة عشر حرفاً أو رمزاً, بمعنى إذا علمت الطفل صورة (الباء) فإنه يمكن أن يكتب التاء والثاء بهذا الرمز الواحد نفسه بتغيير طفيف في عدد ومواقع النقاط, وهذا يتكرر عدة مرات في الأبجدية العربية مما يجعل عدد الرموز التي يتعين عليه أن يتعلمها في الحقيقة تسعة عشر رمزاً أساسياً هي كل الأدوات التي يتعين عليه تعلمها ليكتب ويقرأ هذه اللغة الفصيحة، وتنفتح له أبواب كنوزها وتراثها العريض.. تسعة عشر رمزاً أو رسماً لأغنى وأفصح لغات العالم. كل هذا فضلاً على جماله ورشاقته وتباين أشكاله وتعددها, بحيث يساعد ذلك الخطاط على اختيار شكل الحرف الذي يناسبه حسب المقام.
والحرف العربي هو حرف يقترب من الطبيعة في انسيابيته ورشاقة حروفه وفي تكويناته اللانهائية, وفي ليونته وطواعيته للكتابة الجميلة, ليس فقط للكتابة الموجزة بل والفائقة الجمال أيضاً.
إن الراحة النفسية التي يجدها المتأمل للوحة خطية بحرفنا العربي الشريف, تشبه الراحة التي يشعر بها الإنسان عندما يتأمل الطبيعة الجميلة من حوله.