لم يتناول شعب فن الخط مثلما تناولتها الشعوب العربية والإسلامية، حتى أصبح الحرف والقلم ويد الإنسان تعني خفقات في الإيقاع الجميل داخل النفس المبدعة، وهذا الإيقاع له رنين وجدان، وله وميض الهام، وهو طرح باطني لعبقرية يد إنسان شرقي خلقها الله ولها حساسية غيبية مرهفة، وان لدراسات الحروف بشكل عام مجالات كثيرة ومتشعبة تتضمن ما هو أكثر من التاريخ -النشأة والتطور- حيث أن هناك تخصصات عديدة فرضها دور الحروف والأبجديات وحركتها في التوثيق والاتصال الكتابي الإنساني وفي التعليم ونقل المعرفة عبر القرون المتعاقبة.
واتصال هذه التخصصات بحركة التطور التاريخي لعلوم اللغة والفن والطباعة، فمن المعروف أننا في الكتابة نستخدم رموزاً بصرية هي (الحروف) تمكننا من تحرير وإرسال واستقبال الرسائل من وإلى الآخرين مع اختلاف في الزمان والمكان أو الاثنين معاً.
إن الاتصال الشفهي يسبق الاتصال الكتابي، غير أن القاسم المشترك في ذلك هو اللغة التي تعتبر هي والكتابة تقنية اتصال مع إدراك أن اللغة هي هبة فطرية تستزاد في الوسط المتكلم في حين أن الكتابة والخطابة يمكن اكتسابهما تعليمياً إذا توفر التدريب المنظّم على طرق التدوين المتلائمة مع اللغة المنطوقة للتمكن من إتقانهما، وكتابتنا العربية موثّقة أثرياً على قلة المكتشف من الآثار وهناك إجماع على أن أصلها هو الخط النبطي المتطور عن الخط الآرامي المنحدرين من الفرع السامي الشمالي، كما أن هناك اتفاقاً على التطوّر التسلسلي لأشكال الحروف العربية مقارنة بما وصلنا من خطوط هي قيد الاستخدام.
والحديث عن الخط العربي شيء يفوق التعبير والخيال، ويضع الشاهد أمام الخصوصية التي خصّ الله به أولئك الذين كرّسوا حياتهم في جودة هذا الفن النبيل في أحسن صوره وأشكاله، وأمام هذا الخيال المتألق والإبداع الجميل اللا محدود من موسيقى العيون نستطرق باب الخط الديواني.
يعتبر الخط الديواني أحد أهم أنواع الخطوط العربية التي تدخل ضمن حياتنا المعاصرة، حيث يمتاز باللين والطواعية بعيداً عن التكلّف، قابلاً للانسياب، باسطاً مدّاته بتناغم راقص على مساحة اللوحة ليشكل صورة رائعة من الجمال.
الأصل والمنشأ:
الخط الديواني هو أحد الخطوط التي ابتكرها العثمانيون، ويُقال إن أول من وضع قواعده وحدّد موازينه الخطّاط إبراهيم منيف، وقد عُرف هذا الخط بصفة رسمية بعد فتح السلطان العثماني محمد الفاتح للقسطنطينية عام 857 هــ وسمّيبالديواني نسبة إلى دواوين الحكومة التي كانت يكتب فيها.
ويقول الأستاذ محمّد طاهر الكردي الخطاط المكّي في كتابه (تاريخ الخط العربي وآدابــه): إن الخط الريحاني هو نفس الخط الديواني إلا أنه يختلف عنه بتداخل حروفه في بعضها بأوضاع متناسبة متناسقة خصوصاً ألفاته ولاماته، فانتداخلها في بعضها يشبه أعواد الريحان، ولذلك سمّي هذا قديما بـ “الريحاني”. وفي هذا العصر أطلق عليه الخط الغزلاني، نسبة إلى الخطاط الشهير مصطفى بك غزلان فانه كان يتقنه اتقاناً عظيماً وله ذوقٌ سليم فيه، وقد تعلّمه على يد محمود شكري باشا رئيس الديوان الملكي المصري، وكان هذا يجيد كتابته إجادة تامة، وهو خط جميل جذّاب المنظر إذا كان كاتبه متقناً له ومتفنناً فيه.
مميزات الخط الديواني:
يتميّز هذا الخط باستداراته، فلا يخلو حرف من أقواس، وإن أصل رسوم الخط الديواني تكتب مباشرة بالقلم القصب بعرض قطته خال من رسم التصنيع، ويتم التعديل بقلم أدق حتى في حروفه ذات الأذناب المرسلة الدقيقة وهي الألف والجيم والدال والواو والراء.
غير أن الخطاط المتمرس جيداً يكتب هذا النوع بقلم واحد فيدوره حسب متطلبات الحروف ذات النهايات الرفيعة وكذلك في رسم الألف النازل واللام والكاف وكأس الحاء ومشتقاته والميم وغيرها ذات النهايات الرفيعة.
ومن مميزاته أيضاً أن يكون هناك التقاء الحروف وتلاصقها عبر مسار خط أفقي مستقيم إلا إن بعض الحروف يتحتم عليها الخروج من ذلك المسار لتعطي بعداً أكثر جمالية لمرونة الحرف في هيكلية إبداعية مبتدعة تهفو نحو أفق يكتظ بمفردات واسعة من الأناقة والرتابة والقوام الرشيق.
وهو خط لين مطواع يصلح لأغلب الكتابات وهو مرن في الكتابة مما سهّل الكتابة على الخطاطين.
اختص بالكتابات الرسمية في ديوان الدولة العثمانية، وكتابته تكون بطراز خاص، وخاصة بديوان الملوك والأُمراء والسلاطين وهو كتابة التعيينات في الوظائف الكبيرة، وتقليد المناصب الرفيعة وإعطاء البراءات، وما يصدره الملوك منالأوامر الخاصة وغير ذلك، وأحياناً يكتب به أسماء الكتب والإعلانات.
وقد أجاد الصدر الأعظم “شهلا باشا” هذا القلم وروّج له بالتنقل والارتحال في أنحاء الدولة العثمانية.
وسّمي بالديواني لأنه صادر من الديوان الهمايوني السلطاني؛ فجميع الإنعامات والفرمانات كانت لا تكتب إلا به. وقد كان هذا الخط في الخلافة العثمانية سراً من أسرار القصور. كما تميّز خط الديواني باستقامة سطوره من أسفلها/ وحروفه ملتوية أكثر منها في الأنواع الأخرى.
ويلخّص لنا الأستاذ محمود يازر التركي أحد أقطاب هذا الخط قائلاً: “يلزم على الكاتب عند البدء التقيّد بأقواس الحروف المجموعة والحروف المرسلة، وضبط تراصفها ومراعاة نسبها بين بعضها وهذه الأقواس هي: الباء والجيم والسين والعين وعرقات الفاء والقاف ورؤوس الكاف والنون وتضفيرة اللام ألف وتجميل نهاية الباء ومدّة الهاء في لفظة الجلالة”.
الخط الديواني الجلي::
منشأ هذا الخط ليس وليد تفكير، ولا هو نتيجة جهود قصد منها التحسين والإبداع، ولكنه وليد صدفة تهيأت لإيجاد غيره فمهّدت له هو فتكوّن بالتتبع للملائمة والتجانس، وأنه من فروع الخط الديواني الذي يحمل خصائصه ومميزاته مما سمّي الخط الديواني الجلي؛ وهو الخط الذي عرف في نهاية القرن العاشر الهجري وأوائل القرن الحادي عشر.
ابتدعه بالانتشار في أنحاء البلاد الإسلامية، وأولوه العناية بكتابته في المناسبات الجليلة الرسمية.
وهو يمتاز عن أصله الذي تفرّع منه ببعض حركات إعرابية ونقط مدوّرة زخرفية، رغم أن ألف باء حروفه المفردة بقيت مشابهة لأصلها الديواني باستثناء العين والحاء ومثيلاتها، وقد ضبطت بقواعد ميزان النقط على غرار الخط الثلثي. وممن اشتهر بتجويد هذا القلم غزلان بك المصري.
وخط جلي الديواني شبيه بالديواني إلا إنه يحتاج إلي كثير من التعديل والتزويق في حروفه ذات التقويسات، وطريقة كتابتها تكون بين متوازيين بقلم الرصاص بعرض طول ألفها الذي يكتب السطر بها، وعلى الطريق بين السطرين تحشى نصوص الكتابة بدقة فائقة وحساب متكامل شريطة أن يمتلئ الحرف نفسه بنفسه، ثم يضاف لها التشكيلات التزيينية، وأول ما يكتب أشكال ذات الحروف الغليظة من دون إصلاح ترويسات أو تشظية أواخر الحروف بنفس عرض القلم.
ثم بعد إنجاز هذه الأقسام من الحروف يشرع باستعمال قلم آخر لأجل إتمام ما ترك من الأجزاء الدقيقة من تلك الحروف بالرسم، يكون عرض هذا القلم الأخير ربع عرض القلم الأول، وقد اتفق الخطاطون على اعتبار الحروف التي تحتاج للتزويقوالتعديل هي الألف والجيم المفردة والعين المفردة واللام المفردة والهائين المتراكبتين والفاء المتوسطة.
وخط جلي الديواني يأخذ على الأغلب شكل السفينة، وقد يأخذ أشكالاً أخرى جميلة من حيث التصميم الذي أبدع فيه كالدائرة وغيرها.
ففي المسابقات الدولية لفن الخط والذي يقيمها مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية باستانبول والمنطلقة من منظمة المؤتمر الإسلامي، أثبت الخطاطون السوريون مكانتهم اللائقة في العالم بكل ثقة وجدارة، وأضحوا دعائم لهذا الفن الجميل في إعادة صياغة وبناء رونقه على ما كان عليه في بداية عهده وإزدهاره. حيث حصد الخطاطون السوريون أكبر قدر ممكن من الجوائز والشهادات والتقديرات والمكافآت في المسابقة السادسة لفن الخط والتي حملت اسم الخطاط مير عماد الحسني، وعن الخط الديواني والذي نحن بصدده حيث فاز بالجائزة الأولى والثانية والثالثة من نصيب خطاطينا السوريين وهم على التوالي أحمد شمطة ومأمون يغمور ومحمد ديب جلول، أما عن خط الديواني الجلي فقد فاز بالجائزة الأولى الخطاط عدنان الشيخ عثمان، وخالد الساعي وغيرهم.