وفدت الكتابة العربية على البلاد المغاربية على يد الفاتحين العرب سنة (50هـ/ 670م) حين وجّه الخليفة معاوية بن أبي سفيان عامله، وقائد جيشه عقبة بن نافع الفهري إلى بلاد البربر (إفريقيا الشمالية اليوم) لفتحها، ونشر الإسلام بين القبائل البربرية، الذين كانت لهم كتابة خاصة بهم تعرف باسم “تيفناغ” لا تزال مستعملة حتى الآن لدى سكان الطوارق بالجزائر (1). وفي القيروان لما تأسست عاصمة إدارية ودينية، انبعثت هناك مؤسسة تعليمية جديدة (بيت الحكمة في شكل جامعة للعلوم والفنون والآداب والترجمة) كانت مقصد العلماء والطلاب. ومع بعثة الفاتحين العرب، وصل الخط إلى النقطة المحورية الجديدة (القيروان) في عصر بني أمية. في القيروان وقع استخدام الخط الحجازي والكوفي، ثم استقلوا بالكوفي المنسوب للقيروان (الكوفي القيرواني ذي الحروف المستطيلة المزوّاة).
وكانت القيروان باعتبارها قاعدة الحكم محطة أولية ليس غير. ولما ارتحل الفاتحون، تغيرت أهمية القيروان وصارت الأندلس محط أنظار الجميع (السلطة الإدارية والبربر ورجال العلم)، فكانت محطة ثقل مهمة في الحضارتين والثقافتين العربية والإسلامية. وفي الأندلس وقع استعمال “الخط الشامي” إلى جانب “الخط القيرواني” في مصاحفهم ورقاعهم ومراسلاتهم. وقع تقبّل الخط القيرواني، فطوّروه وأدخلوا عليه “ليونة جديدة جيدة” ميزته عن المألوف، وولدوا خطاً أسموه بالأندلسيّ أو القرطبي، بالرغم من أن المسلمين الأولين كانوا يكتبون بالخط المشرقي على رأي (المقري) في “نفح الطيب”، ج2، ص: 123.
في تتبع المقولات المهمة ندرك ما لهذا الخط من اهتمام المؤرخين والدارسين خاصة. إن ظهور الخط الأندلسي في العهد الأموي كان مظهراً من مظاهر استقلالهم عن المشرق. يقول ابن خلدون: “وتميز ملك الأندلس بالأمويين، فتميزوا بأحوالهم في الحضارة والصنائع، وتميز صنف خطهم الأندلسي كما هو معروف الرسم لهذا العهد” (2). إن العصر الذي تم فيه الاندماج بين الأندلسيين والمغاربة كان عصراً غلب عليه الخط الأندلسي وانتشاره في بلدان المغرب، وذلك بحكم تعلق الأندلسيين بأذيال الدولة وتشبثهم بالخدمة في دواوينها. يقول ابن خلدون: “فانتشروا، أي الأندلسيين، في عدوة المغرب وإفريقية من لدن الدولة اللّمتونية، إلى هذا العهد، فغلب خطهم على الخط الإفريقيّ، وعفا عليه، وبقي منه رسمه ببلاد الجريد” (3).
لم ينته الخط الأندلسي بنهاية الأندلس الإسلامية، وإنما ظل مرجعاً معتمداً بعد ذلك في المغرب الأقصى، الذي احتضن تراث الأندلس، ومنه الخط وما يتعلق به. وأخذ الخط الأندلسي يطغى على القيرواني في ظل الحكم المرابطي. وظهر في هذا العصر خطاطون على الطريقة الأندلسية بين مغاربة وأندلسيين استوطنوا المغرب. وقد أدت مزاحمة الخط الأندلسي للقيرواني إلى حدوث منافسة بين الخطين (4). إن أهل الأندلس لما افترقوا في الأقطار عند تلاشي ملك العرب بها بعد أن تغلبت الأمم النصرانية عليهم، انتشروا في المغرب حاملين معهم هذا الرافد الثقافي الجديد، وهو خطهم الأندلسي، نشروه أينما حلوا، وأدخلوه في تقاليدهم، فتقبله المغاربة وعانقوه لما وجدوا فيه من جاذبية وجمال وتفرد.
الكتابة الأندلسية… رافد جديد
تخضع الكتابة الأندلسية لنسبة هندسية مهمة، مع حسن فائق، ورونق آخذ بالعقل، وترتيب يشهد بكثرة الصبر والتجويد. يظهر الخط الأندلسي مقوس الأشكال، والسطر العمودي هو دعامته، أدق من السطر الأفقي. تتجمع الحروف القصيرة والمستديرة على شكل الخط الإفرنجي القديم (على رأي هوداس). وقد بلغت كتابة المصاحف عند أهل الأندلس من الكمال، وحسن الخط ما لم تدركه من قبل ولا من بعد. والنتيجة الطبيعية لجودة الخط أن ألقى الخط بظلاله على المخطوطات، لتأتي دُرَراً ناصعة في أناقتها وجودة كتابتها. ولعل من أجمل المخطوطات الأندلسية صفحة من مجموعة الدكتور مارتين بمدينة فلورنسا بإيطاليا مكتوبة بالخط الأندلسي الجميل. أخذ الخط الأندلسي يكتسح المراكز المنافسة عبر المغربين إلى منطقة القيروان (5).
إن البنية العامة لهذا الخط هي بنية “لينة” تميل إلى التقويس والاستدارة أكثر منها إلى الاستقامة. وقد انتظمت فيها الحروف انتظاماً مركزاً مدروساً، ولّد حركية أفقية نتيجة انبساط الحروف على السطر وتكاملها مع صواعدها. أما الفراغات، فقد تنوعت وتوازنت في التماع حركي أحدث إيقاعاً بصرياً متكاملاً.
لقد التزم الخطاط الأندلسي بقواعد معينة وملزمات في ملء فضاء الصفحة. لذلك نجد بعض التعريفات التي تنساب انسياباً تلقائياً، فتخرج عن الإطار المحدد للكتابة. وهذه الممارسة تأتي عن وعي في محاولة لامتلاك الفضاء امتلاكاً جمالياُ، يعطي بعداً مادياً تشكيلياً لكل حرف وفراغ وحركة (6).
الحروف ومدى تشابهها وتطابقها
يشهد التمعّن في هذه الكتابة الخطية للخطاط بمقدرة كبيرة وكفاءة متناهية في سيطرته على حروفه، وحسن تكرارها بالحجم والكيفية والمقياس نفسها. وإن دل هذا على شيء، فإنه يدل على مدى تمكن الخطاط من صنعته ووفائه، وعلى إدراك مدى ارتباط الحروف وتشابهها (الراء والواو)، وتعريقات النون والسين والشين والصاد والضاد والقاف واللام، وتعريقات الجيم والعين اللذين أخذا شكل نصف دائرة. وهذا التشابه ولّد ائتلافاً بين الحروف فتناسقت الكلمات وترابطت في نظام واحد أعطى توازناً للنص المكتوب (7). إن هيئة الأندلسي الشديد التناسق، بأشكاله العارية بين الزخرف والتزويق والمستديرة، لم تكن قط لتناسب مزاج شعوب المغرب (8). وحروف هذا الخط القصيرة والمستديرة تتجمع في شكل كثيف جدّاً وتكوّن مجموعاً، وغالباً ما تأتي الأسطر متقاربة. فياء آخر الكلمة توضع نقطة فوق جزئه النهائي بدلاً من أن توضع نقطة تحته. وقد تتجمع الكلمات هنا أكثر التحاماً منه في القيرواني والفاسي. وظل الخط الأندلسي يتطور من حسن إلى أحسن ثم خطا نحو الوضوح واتساع التطور وجمع حروف الكلمة. ثم تغير سمك القلم، وظهر تباين بين الرأسيات والأفقيات (9).
التوسع والانتشار
تحوّل الخط الأندلسي إلى المغرب. وفي مدينة فاس استقر وتفرغ. تقبلت فاس الخط الأندلسي فحافظت عليه وطورته بذوق جديد، وجمالية متفردة. برع الخطاطون بفاس في خطهم، فكان أسلوباً فريداً في روعته. حروفه تميل قوائمها نحو اليمين، عكس الخطوط العربية، ويمتاز بتباين سمكه وليونته المناسبة بلطف وقوة وجمال. ويمتاز الخط الفاسي باستدارات في حروف النون والباء الأخيرة والواو واللامات والصاد والجيم وما شابه ذلك. بقي الخط الفاسي كما هو تقريباً. وقد فقد قليلاً من أشكاله المتحررة وكسب مظهراً أكثر بساطة لما اقتبس من الأندلس رتابة في تناسق الحروف (10). حروفه دقيقة الرسم وبعضها لا يكتب إلاّ بثلث القلم. وهذا الخط يمتاز باستلقاء الأحرف وامتدادها وله من الأناقة حظ كبير، بفضل طول الأسطر العمودية الذي كاد يبلغ حد الشطط، والتباعد بين الأحرف التي تمتد أشكالها بنوع من الوفرة. والأسطر التي اتحد حجمها ورقّ مظهرها قليلاً، تندفع في كثير من الجرأة وتبدو لأول نظرة على تناسق كبير (11).
وقد زاد الذوق الفاسي في الإجادة الفنية ما اكتمل به جانب الإتقان والتفنّن. ولما انتشر الإسلام على يد أهل المغرب في السنيغال وفي شرقها (السودان الغربي وتمبكتو)، انتشر هناك خط متولد من الخط المغربي الأندلسي في أنحاء السودان يسمى “الخط التمبكتي”، وهي المركز العلمي الرابع للمغرب.
إن لهذا الخط من الأناقة الحظ الكبير بفضل طول الأسطر العمودية التي تتباعد حروفها، وتمتد أشكالها بنوع من الوفرة، والأسطر التي نجد مظهرها رقيقاً تبدو على تناسق كبير. وقد أثر في رقيه تعاقب الدويلات على المغرب وقصر أعمارها. وقد طغت عليه الأقلام المشرقية بشيوعها في الكتب المطبوعة، فانزوى في المصحف الشريف وامتنعت على الناشئة قراءته وابتعد عنه الخطاطون المعاصرون وتقاعسوا عن إحيائه أو تطويره، ولا يزال يظهر في بعض الاستعمالات على استحياء، وما فتئ المسؤولون في المغرب يتوقون إلى رجوعه للصدارة، ولكن دون ذلك التشجيع الجدي منهم والاهتمام المتواصل لإحيائه من أهل الاختصاص (12).
جمالية الخط المغربي
– مدخل إطاري
عند النظر إلى التاريخ وإلى الموسوعة العلمية وتفحّص الوثائق والأحجار والنقائش والوقفيات والبراءات السلطانية، نقرّ بأن الخط المغربي قائم بذاته موجود وقديم، والتوقف عند خصوصياته يستلزم قراءة ذاتية لمعرفته (الخط المغربي) ورحلته عبر التاريخ. ترى ما ملامحه المشتركة التي تجعل منه شخصية مستقلة تميزه عن الخطوط المشرقية، وما الرونق الخاص الذي تحمله حروفه وهو الذي لم يقنّن بعدد لحد الآن، وكيف وهو يميل إلى الأشياء الطبيعية؟
مبدئياً وبالرجوع إلى الوراء، نتوقف عندما حمل الفاتحون المسلمون دينهم وشرائعهم إلى سكان المغرب، وفرضوا في الحين نفسه وجوب استعمال اللغة العربية على البربر الذين كانت لهم في ذلك العهد كتابة خاصة بهم تعرف بـ”تيفنّاغ” التي لا تزال مستعملة حتى الآن عند الطوارق في الصحراء الجزائرية، وكانت القيروان المحطة الأولى التي انطلق منها الحرف العربي إلى بقية أقطار الشمال الإفريقي والأندلس وغرب إفريقيا. وبالرغم من أن الكتابة المغربية الأصلية تسمى إلى القرن (5هـ) بالكتابة القيروانية، فإنه تولدت في القيروان عاصمة المغرب الكبير آنذاك في أوائل القرن (2هـ) من الخط الكوفي مباشرة ولم يقتبس من النسخي الحجازي (المكّي والمدني)، خلافاً لما حصل للخطوط المستعملة في النسخي في المشرق (13).
ظروف نشأة الخط المغربي
أدّى انتشار الإسلام بإفريقية إلى الاهتمام بالكتابة وحفظ القرآن. وإذا كانت الوسيلة الأولى للمعرفة هي الكتابة دون مراعاة القواعد الفنية التي يكتب بها الحرف العربي، أو حتى تهذيب الحروف وتحسينها، وإعطائها تكاملاً وتناسقاً، وبُعداً جمالياً، فإن السبب في ذلك هو ما عليه إفريقية من البداوة والتّرحال والخوف من المجهول، وقصر فترات الدول المتعاقبة. وبداية من القرن الأول للهجرة عمل العلماء الذين أرسوا في القيروان، على نشر الكتابة والخط خارجها. وكان خطهم يسمى بـ”القيرواني”، وهو الكوفي القيرواني، المتأثر بالكوفي العراقي (14). وبداية من القرن الرابع، بدأ التغيير يطغى على هذا الخط مع الاحتفاظ باستقامة أشكاله. وقد تشبث المغاربة بالخط القيرواني، ولم يحاولوا مجاراة غيرهم من خطاطي المشرق في تطوير الخط، والابتعاد تدريجياً عن الكوفي، بل وأصبح لهم خط مستقل يعرف بـ”الخط الإفريقي” يستجيب لحاجياتهم أثناء الفتوحات الإسلامية. وفيه يقول ابن خلدون: “فغلب خطهم على الخط الإفريقي وعُفي عنه ونسي خط القيروان والمهدية بنسيان عوائدهما وصنائعهما” (15).
كانت الحركة التجارية مزدهرة بين ضفاف البحر الأحمر، وكان قدماء سكان مصر والسودان وما كان يسمى بإفريقيا على اتصال بالعرب، وبكل ما يتعلق بالعرب، الأمر الذي جعلهم يتقبلون دعوة الإسلام. ولا ننسى ما كان بين العرب وأهل الحبشة من صلات، حتى أن أول هجرة للمسلمين كانت للحبشة.
كان للبربر خط ولا يزال. وفي هذا الصدد نجد صفحات مكتوبة بخطهم القديم “تيفنّاغ”. وحروفه هي حروف اللهجات البربرية. وكانت لبربر ليبيا حروف خاصة بهم، وكان لبرابر الأطلس أصحاب “تمازيغت” كذلك حروف خاصة بهم. وكذلك شأن من يسمون الآن بـ “الطوارق”.
إن سيطرة الحرف العربي أمر وارد، حتى أن طائفة من البربر اختارت أن تكتب بالعربية. ويوجد عدد من علماء البربر من الذين يكتبون باللسان العربي الفصيح. وترجع قيمة اللغة العربية إلى كونها نقلت كلام الله وشريعته إلى الشعوب، فاكتسبت أداة نقل هذا الخطاب السيّامي نوعاً من القدسية إلى درجة أن العبث بكل مكتوب عربي يعدّ إثماً.
صورة أولى للخط المغربي
من الجدير بالملاحظة ظهور نوع من الخط الكوفي المحلي ببلاد المغرب والأندلس عرف بالخط الكوفي المغربي شاع استخدامه في كتابة مصاحفها ومكاتباتها، وهو أقرب إلى خط النسخ والثلث حيث يتميز بحروفه التي تجمع في شكلها بين حروف الخط الجاف والليّن معاً، ممّا يعطيها طابعاً مميزاً لا تخطئه العين ويجعلها أكثر طواعية في التنفيذ.
يلجأ كاتب هذا النوع من الخط إلى كتابة بعض الحروف مثل اللاّم والنون والباء النهائية بهيئة أقواس نصف دائرية تهبط على مستوى السطر وتتكرر على امتداده؛ كما يمزج الخطاط بين هذه الاستدارات والحروف الأخرى ذات الشكل الجاف وفي الزوايا، مما يذكرنا بالكتابة العربية البدائية. وقد ظل هذا النوع مستخدماً حتى حلّ محله خط النسخ في كتابة المصاحف في القرن (7هـ/13م). ومن الأمثلة على ذلك صفحة من مصحف القرن (5هـ/11م)، محفوظة في مكتبة شستري بيتين (16).
ويحمل الخط المغربي في ثناياه نفحة أولية من تلك الحضارات الأولى، وتطور إلى أن استقل عن النفوذ المشرقي وصاغ بنفسه شخصية وميزة عامة لها خصوصياتها وذاتها وقواعدها. ولا مرية في أن الحضارة المغربية الأندلسية طبعته بما لها من مميزات كالفسيفساء التي دخلته، فتداخلت الحروف في فن رائع تزيد في روعته، وصعوبة قراءته، وكأنه يحتوي على أسرار يتدلل في الكشف عنها، يبدي زينته للقارئ، ويخفي عنه مفاتنه، ومفاتيح فك رموزه. كما يجب على القارئ العربي أن يكون من الفاهمين قبل قراءة النص العربي، ويجب على الرائي أن يكون من الفاهمين والمبصرين المتبصرين قبل أن يفك هذه الرموز الغامضة على كل مبتهج يقبل على الحروف المتداخلة (17).
وقد اشتقت الكتابة المغربية اللينة مباشرة من الخط الكوفي الجاف. وكان هذا الاشتقاق في الفترة نفسها التي شاع فيها استعمال الخط الليّن المشرقي. ونحن نستبعد أن يكون الخط المغربي أخذ ليونته من المشرق. للمغاربة اعتزاز بما وصلوا إليه من تطوير في الكوفي إلى حد اعتبار الخطوط المشرقية أقل مستوى من خطهم المغربي.
قبل المغاربة الخط العربي وهجروا كتابتهم القديمة. وقد أنشأوا خطاً ذا خصائص مغربية لا يزال يحافظ على ثلث حروف الخط اليابس (الكوفي). ويمتاز الخط المغربي بانسياب عراقته الواسعة ورسوّ سطره فكان نوعاً فريداً من الخطوط العربية. وقد تطوّر بمعزل عن الخط المشرقي وتخالف معه في ترتيب الحروف الأبجدية، أنواعه قليلة، تطوره بطيء، جنى عليه ارتباطه بالكوفي، وخلوّه من القواعد والموازين أو ضياعها، فبقي خط تدوين، قاصراً في مجال اللوحات واللافتات إلاّ في النادر. وقد أثّر في ترقيته تعاقب الدويلات في المغرب، وقصر أعمارها حتى لقد استعصى على الناشئة قراءته، وابتعد عنه الخطاطون المعاصرون، وتقاعسوا في إحيائه وتطويره. ولا يزال يظهر في بعض المجالات خصوصاً في المغرب وموريتانيا. أما في أواسط إفريقيا، فلا يزال هو السائد، خصوصاً في المصحف الشريف. وما فتئ المسؤولون في المغرب يتوقون إلى رجوعه للصدارة، ولكن دون ذلك التشجيع الجدي منهم، والاهتمام المتواصل لإحيائه من أهل الاختصاص (18).
الخط المغربي التقليدي واضح كل الوضوح، ولا يخلو من جمالية بعيدة عن كل تصنّع. إن أهل فاس، مثلاً، أخفوا بالنسيج والجبس فوقه الكتابة المزخرفة التي تزيّن قوس محراب جامع الأندلس المجاور له، عندما دال المغرب إلى المرابطين الذين تشدّدوا في أمور الدين، فمنعوا كل زخرفٍ ونقشٍ، الأمر الذي فعله أهل الأندلس بمساجدهم للحفاظ على زخارفها في العهد نفسه، ولم يحِد الموحّدون عن هذه السياسة. وذلك جليّ في المساجد التي بنوها. ولم تكتشف المساجد الأولى عن فسيفسائها إلا بعد اندحار المرابطين والموحدين (19).
اكتفى المغاربة في البداية بتلطيف أشكال الكوفي الحادة والمزوّاة، دون أن يضيفوا إليه أكثر من نقط الحرف التي تكسبه كل ما تستطيع الكتابة العربية من دقة. وفيما بعد زادوا في التأنق عند تسطير بعض الحروف، وخفّفوا أشكال البعض الآخر المثقلة؛ ولكن لم يزدهر فن الكتابة عندهم قط. وإذا كان البرابرة يعيشون إلا أقلهم عيشة بداوة، فلم يعرفوا الترف قط، ولم يتعاطوا كل الفنون، ومن ضمنها الكتابة إلا لحاجتهم الأشد عجلة. ولو أن قدم الأندلسيون الذين أخرجوا من إسبانيا، لَمَا كنّا نجد لدى سكان المغرب إنتاج صناعتهم القليل الذي يكتسي طابعاً فنياً، وأن تأثير الأندلسيين في فنون المغرب قد بعث ابن خلدون عدا افتراض “أن الكاتبة المغربية الحالية قد أخذت أشكالها النهائية من الخط الأندلسي” (20).
المدرسة المغربية وبعض خصائص حروفها
تمثّل هذه المدرسة المغرب والأندلس. وقد جوّدت الخط الكوفي في القرون الخمسة الأولى للهجرة. وعندما ليّنته لأغراض التدوين، حافظت على عدة حروف منه على حالتها في الكوفي. وكانت أنواع الخطوط قليلة وفروعها ضئيلة، وليس لها قواعد تضبطها (21). ولعل من العوامل التي قيّدت الكتابة المغربية تفرعها عن الكوفي الجاف، وتحجرها على كثير من رسومه وآثاره. فلم تبتعد عنه، بل تكتب بشكل واحد في الابتداء والتوسط والتطرف. والكتابة المغربية – في أصلها – نجدها موزونة ومتناسبة (للألف) باستثناء العراقات التي تشتط في التقويس، وكبر الحجم، وكذلك رأس العين بالنسبة لعراقته، وكانت منبسطاتها مستقيمة أو منكبة (22).
وتتخذ الحروف دائماً امتداداً مبالغاً فيه وتقوّساً لا مبرر له في بعض الحروف ذات العراقات مثل: س، ص، ل، م، ن. ولم يكن لشكل كل حرف طابع خاص به لاختلاف الكتابة المغربية. فقد تعترضك صفحة حررتها يد واحدة بها ثلاثة أو أربعة أشكال مختلفة للحرف الواحد. اكتفى المغاربة في البداية بتلطيف أشكال الكوفي الحادة والمزواة، دون أن يضعوا عليها أكثر من نقط الحروف التي تكسبه كل ما تستطيع من الكتابة العربية من دقة. وفيما بعد، زاد التأنق عند تسطير بعض الحروف وخففوا البعض الآخر المثلة، ولكن فن الكتابة عندهم لم يزدهر قط (23).
بعض خصائص الخط العربي
لم يرفض المغاربة كل ما جاء إليهم من الشرق. فقد قبلوا ترتيب الحروف الهجائية مع اختلاف يسير، واستعملوا نقط الأعجام (نقط الفاء بواحدة من أسفل والقاف واحدة من أعلى). وقد ظل استعمال الخط اليابس (الكوفي) في المصاحف المغربية حتى القرن الخامس الهجري. ويلاحظ تطور الخط إلى الليونة:
1) نلاحظ ليونة في عراقات “النون” وأشباهها. فقد تقوّست وخالفت أصلها اليابس.
2) رُسمت الألف على استقامة، وحذف منه العقف الذي كان يلحقها من جهة اليمين.
3) تنحدر الألف المتصلة عن مستوى السطر، فتكوّن زائدة كوفية هي من المميزات التي نراها باقية في الخط المغربي. ولعل هذا راجع إلى بدء رسمها من أعلى.
4) بحكم عدم وجود قواعد محددة لهذا الخط، لا يمكن فرض أبجدية خاصة. إذ كثيراً ما يعمد الخطاط في هذا الخط إلى طمس الأحرف، وذلك باستعمال أشكال متغيرة للحرف الواحد، وبربط الكلمات ببعضها، مما يجعل الأسطر متماسكة تماسكاً محكماً يساهم في دعم البنية الأفقية للصفحة. وإن تعسرت القراءة، فإن ذلك من خاصيات هذا الخط.
أنواع الخطوط المغربية
يقول ابن خلدون: “حصل في دولة بني مرين بالمغرب الأقصى لون من الخط الأندلسي”. ثم يوضح أن هذا اللون من الخط إنما هو الأندلسي المتمغرب، حيث أخذت الكتابة تكتمل مغربيتها من عصر بني مرين إلى أن صارت متميزة عن الخط الأندلسي في وضعها، وفي إغفال نقط الحروف الأخيرة، وفي عدم تقطيع حروف الكلمة الواحدة بين آخر السطر، وأول السطر التالي.
نعم في هذه الفترة الأخيرة ضبط الدارسون للخط المغربي وجود مدارس لهذا الخط نسبت إليها:
1) القيرواني: خاصيته أن تظهر حروفه قصيرة وقريبة من بعضها على خط التناسق، والنقط الموضوعة على كل الحروف النهائية، تمثل بياناً يميز الخط بين القيرواني وغيره.
2) الأندلسي: هو من بين أنواع الخط المغربي أسهلها تعرّفاً، حيث أن السطر العمودي هو عامة أدق من السطر الأفقي. وتتجمع الأحرف القصيرة والمستديرة على شكل كثيف جدّاً، وتكوّن مجموعات الأسطر غالباً ما تأتي متقاربة، فـ “يـاء” آخر الكلمة توضع نقطة فوق جزئه النهائي بدلاً من أن توضع تحته، تجمع الكلمات هنا أكثر التحاماً منه في القيرواني والفاسي.
3) الفاسي: له من الأناقة الحظ الكبير بفضل طول الأسطر العمودية الذي كاد يبلغ حد الشطط والتباعد بين الأحرف التي تمتد أشكالها بنوع من الوفرة، والأسطر التي رقّ حجمها ومظهرها قليلاً فتبدو على تناسق كبير.
4) السوداني: شكله جاف. أشكال الحروف الثقيلة هي نهاية في عدم التناسق. الأسطر كثيفة أحياناً، ودقيقة أحياناً أخرى. ترتفع الأسطر العمودية إلى علو كبير، لا تناسب بينه وبين غلظة الكتابة. وشكل القفلات وانحدار الكتابة العامة قوي البروز (24).
إن حالة الإبداع في الخط المغربي بجميع أنواعه وأصنافه وخصوصياته لها أسباب، منها:
1) مهارة الخطاط المبدع من حيث المرونة والمطاوعة.
2) الميل إلى الاستحداث والابتكار.
3) الإثارة والإعجاب والامتزاج الفني والروحي.
4) التدريب المستمر والتركيز الذهني الجيد.
5) حيوية الخطوط وقابليتها للتشكيل.
6) مواكبة روح العصر بالمحافظة على الأصالة الثابتة.
7) التنافس المشروع بإشاعة روح الجمال (25).
أنواع الخطوط المغربية الموجودة الآن
استقر الخط الأندلسي المتمغرب في خمسة أنواع، وأشكال:
1) الخط المبسوط: سمي بهذا الاسم، لبساطته وسهولة قراءته وبه تطبع المصاحف المغربية الشريفة على المطابع الحجرية.
2) الخط المجوهر: وهو أكثر الخطوط المغربية استعمالاً، به تحرر الرسائل الخصوصية والعمومية والمراسيم السلطانية والظهائر الملكية. يكثر استعماله حيث طبعت به الكتب العلمية في المغرب. نعت بالمجوهر نسبة لعقد الجوهر، لجماله وتناسب حروفه وتناسق سطوره.
3) الخط المسند: أو الزمّامي وهو خط خاص بالوثائق العدلية والمذكرات الشخصية والتقييدات الذاتية.
4) الخط المشرقي: هو خط مقتبس من الكتابة المشرقية وبخط الثلث خاصة، ولكن اليد المغربية تصرّفت فيه ومغربته. فكان الذوق المغربي قد أضفى عليه مسحة محلية. بهذا الخط تزخرف عناوين الكتب وتكتب عادة الحروف غليظة متداخلة بعضها في البعض، وأحياناً يكتب به بماء الذهب. ولا تزال إلى اليوم نماذج منه في الوقفيات الرخامية على جدران المدارس المرينية بفاس ومكناس وسلا. سمي بالمشرقي، لأن أصله من بلاد المشرق.
5) الخط الكوفي: وهو خط وُجد في المصاحف القديمة. وُجد منقوشاً على الحجر وأبواب بعض قصبات المغرب وفي المساجد العتيقة، وهو خط خاص تكيّف مع الوضع المغربي. وهذا الخط ورثه المغاربة في جملة ما ورثوه عن الحضارة الأندلسية (26).
إن العلامة التي تطبع الكتابة المغربية أن طبيعة السطر هي الطابع الأكثر شمولاً للأمثلة المغربية؛ مثلاً:
1) حواشي السطر المغربي مدعوكة عوض أن تكون ذات جوانب حادة وجلية.
2) قلّما تأتي السطور العمودية من ا. ل. ط. ظ. مستقيمة، وتتخذ لها شكلاً منحنياً وتحمل في طرفها الأعلى شيئاً كالنقطة الغليظة. ومأتى هذه الخاصية الأخيرة التي تلاقيها في بعض الخطوط المستقيمة قلة مائعية الحبر الذي كان يستعمله المغاربة لكأنهم مضطرون إلى أن ينقطوا بالقلم قبل الشروع في رسم الحرف.
3) أن الخطاط المغربي لا يخط دون توقف إلا سطراً أو سطرين. وهذه العادة العامة كانت عامل الربط بين الحروف المكونة للجموع قريبة من البيئة دائماً.
4) تارة تفصل الحروف (بياضات) وتارة يعلو سطر الربط الحرف الذي يجب أن يتصل به. وقد لا نفهم أشكال بعض الحروف، ومن بينها ع. غ وسط الجموع.
5) لا يخط في الكتابة المغربية (السنية) العمودية التي تنتهي (ص. ض) في وسط الكلمة أو في أولها.
6) تتخذ أواخر الحروف دائماً امتداداً مبالغاً فيه في: ش. س. ص. ض. ل. م. ن. وقلّما توضع نقط الحروف النهائية في: ف. ق (27).
لقد تفاعل الخطاط المغربي مع الحرف واندمج معه، فانصهر فيه انصهاراً وجدانياً … تحرك القلم، فسال المداد في حركة انفعالية فتفاعلت معها الكلمة بالصورة والحرف بالفراغ والخط والزخرفة، فارتسمت على المصحف قمة ما أبدعه الخطاط المسلم. ووراء كل هذا وعي خاص في فكر الخطاط، هذا الفكر الذي حدا ببعض الخطاطين إلى تطهير الجسم والروح والصلاة قبل ممارسة الكتابة، ممارسة تعلو على الصنعة. وتلك قمة الإبداع والخلود أعطتنا أثراً فنياً بالغ الصنعة، وتلك الصنعة وراءها إيمان صحيح، تدعمه أدوات عمل مادية وجسمية وروحية روحانية بولغ في العناية بها حتى جاءت الممارسة في الحروف والحركات والزخارف مجسدة في الخطوط المغربية بوجه خاص.
والخط المغربي من الخطوط الجميلة المنضبطة باستدارات وتصوير حروفه، ومدّاته وتقاطعه. فأشكال حروفه التي يتركب منها تعطيه له فردية تميزه عن غيره من التكوينات الخطية الأخرى، الأمر الذي أكسبه نصيباً وافراً من الجمال الأخاذ. وللخط المغربي إيقاع وتنغيم وحركة توافق وتناسب، ويُلحق به مزيد من الحسن والجمال والتوازن. وقد استحسنه الناس لروعته وجماله ووضوح بيانه وسهولة كتابته وقراءته وسرعة إدراك الناس في العين لجماله ولتأثيره تأثيراً ساراً ممتعاً ولاتصافه بالوحدة والربط بما له في النفس من الهيبة والجمال.
إن الكتابة المغربية اقتصرت على المصاحف القرآنية، وبعض الزخارف الخطية المزينة للعمارة الإسلامية في الساجد خاصة المنحوتة على المرمر. وقد عمل كتّاب المصاحف على انتشارها وبقيت صامدة إلى يومنا هذا. ويعود الفضل الكبير للمحافظين على هذا التراث الكتابي في المخطوطات الموجودة في المكتبات المنتشرة في مدن المغرب وقراه ولدى المؤدبين والكتّاب والإداريين وعدول الإشهاد، والطموحات متاحة إلى ضبط خاصية هذا الخط وتحديد مقاييسه واستخلاص قاعدة ثابتة لأبجديته العامة، كل حرف على حدة. وهو أمر موكول للباحثين والدارسين معاً.
الهوامش
(1) محمد الشريفي، خطوط المصاحف (أطروحة جامعية)، الجزائر، 1975.
(2) عبد الرحمان بن خلدون، المقدمة، ص. 956 (وافي).
(3) المرجع نفسه، ص. 957؛ ومحرز شريفه، “نظرة حول الخط الأندلسي”، ضمن: كتاب المخطوط، ندوة كلية الآداب، 1994.
(4) عبد الرحمان بن خلدون، المرجع السابق، ص. 367.
(5) محمد المنوني، “لمحة من التطور”، المجلة التاريخية المغربية، تونس، جويلية، 89، العددان 53 و 54.
(6) علي ناصف الطرابلسي، تحليل تشكيلي لمخطوط قرآني (أطروحة مخطوطة لنيل شهادة الكفاءة في البحث)، تونس، 1983.
(7) طارق عبيد، حماية الخط المغربي (أطروحة مخطوطة لنيل شهادة الكفاءة في البحث)، تونس، 1992.
(8) هوداس، “محاولة في الخط المغربي”، تعريب عبد المجيد التركي، حولية الجامعة، تونس، العدد 3، ص. 66.
(9) محمد الشريفي، خطوط المصاحف، مرجع سابق.
(10) المرجع نفسه.
(11) المرجع نفسه.
(12) محمد الشريفي، “قضايا الخط العربي”، المجلة العربية للثقافة، السنة 12، العدد 23، سبتمبر 1992، تونس.
(13) حسن حسني عبد الوهاب، ورقات عن الحضارة العربية بإفريقية، ج 2، ص. 159.
(14) محمد المنوني، “لمحة عن الخط العربي في الغرب الإسلامي”، المجلة التاريخية المغربية، جويلية، 1989.
(15) عبد الرحمان ابن خلدون، المقدمة، طبعة بيروت.
(16) مايسة محمود داود، الكتابات العربية على الآثار الإسلامية منذ القرن الأول حتى أواخر القرن 12 هـ، مصر 1991؛ وكذلك ناجي زين الدين، مصوّر الخط العربي، ص. 44، شكل 14.
(17) أحمد بن جلون، من رسالة شخصية، 2/10/1994.
(18) محمد الشريفي، المجلة العربية للثقافة، تونس، 9/2/1992.
(19) أحمد بن جلون، مرجع سابق.
(20) عبد الرحمان بن خلدون، المقدمة، المرجع: حولية الجامعة التونسية، العدد 3، السنة 1966، من مقال للأستاذ هوداس، تعريب عبد المجيد التركي.
(21) محمد الشريفي، المجلة العربية للثقافة، شهر 9/ 1982.
(22) د. شريفي، خطوط المصاحف، أطروحة دكتوراه، 1974.
(23) ناصر زين الدين، مصور الخط العربي، ص. 339.
(24) محمد المنوني، الوراقة المغربية، الرياض، 1991.
(25) محمد المنوني، المصدر السابق.
(26) هوداس، “الخط المغربي”، حولية الجامعة التونسية، تعريب عبد المجيد التركي.
(27) علي ناصف الطرابلسي، تحليل تشكيلي لمخطوط قرآني لابن غطوس، أطروحة شهادة التعمق في البحث (مخطوطة)، تونس، 1983.