إن العلاقة بين الحقيقة العلمية (الكيان الموضوعي) ونظرية المعرفة (الابستمولوجي) التي يثيرها الحرف العربي قد بلغت ذروتها عندما توسط طرفي الجمال والدلالة اللغوية والمعرفية، وبما يمكن أن أسميه (جمال المبنى وكمال المعنى).
فهل أن اقتصار ما جودته الأقلام من تنوع على آيات الذكر الحكيم، ومأثور القول، وصافيات الحكم قد فاق التصورات، وأصبح كفيلاً بأن يحيل الشكل ظاهراتياً إلى جماله الأقصى؟ وإذا كان المبدأ كذلك فهل أننا نلتقي جمالياً وتطبيقياً بما أثاره (جادامر) في نظريته للتلقي والتأويل في أواخر القرن العشرين، “بأن أقصى ما يمكن أن يصله الجمال هو الكمال”. أو ما أثاره “الإمام الغزالي” قبل ذلك بما يقرب من عشرة قرون بأن “جمال الشيء في كماله اللائق به”. وفي كلا الحالتين لايمكن الكشف عن هذه الدلالات الظاهراتية، وبنيتها العميقة، دون استقاء المعرفة من علوم شتى لأن ظاهرة تطور الحرف، واستخدامه لم تكن بعيدة عن المنهج الفكري الذي حمله الإسلام مبشراً ومنذراً.
أي أن بنية الحرف استقت أولى قيمها الجمالية من الدعوة الجمعية للفكر، وليس الممارسة الإبداعية الفردية، وعلى أساس أن انتماء ودور الفرد في الجماعة، وبما يؤشر لنا بان القيم الجمالية الجديدة هي: قيم جمعية رغم أنها تحفظ للفرد دوره الحقيقي في بناء الحياة وديمومتها، في الوقت ذاته تغيب الذاتية الفردية أمام المنجز الجمعي.
ولم يدخل القرن الرابع الهجري حتى كانت فكرة معالجة الحروف داخلة في كل أشكال المعرفة الإنسانية، فعالجها العديد من الفرق والجماعات، كما عالجها الصوفية والفلاسفة وحتى المعتزلة، كل على حسب هدفه. ومن هنا وجدنا “الحلاج” يسير في موازاة “أحمد بن زيد البلخي” في القول: ” بأن في القرآن علم كل شيء، وعلم القرآن في الأحرف التي في أوائل السور، وعلم الأحرف في لام الألف، وعلم لام الألف في الألف، وعلم الألف في النقطة، وعلم النقطة في المعرفة الأصلية، وعلم المعرفة الأصلية في الأزل، وعلم الأزل في المشيئة، وعلم المشيئة في غيب الهو، وعلم غيب الهو {ليس كمثله شيء} ولا يعلمه إلا هو.”
أو كما يلخص “زكي نجيب محمود” نظرية “جابر بن حيان” في (ميزان الحروف): “نعود فنقول: أنه لو بلغت اللغة حد كمالها المنطقي، لجاءت كلماتها مساوية لأشياء العالم الخارجي، ثم جاءت أحرف الكلمات مقابلة لطبائع تلك الأشياء– ونحن نتكلم الآن بلسان ابن حيان– فلا زيادة فيها ولا نقصان؛ لكن الذي يحدث فعلاً في اللغة القائمة المتداولة هو أنها بعيدة عن هذا الكمال، فكلمات زادت حروفها على الأصل المطلوب، وكلمات أخرى نقصت حروفها عن الأصل المطلوب؛ إذن فالخطوة الأولى التي يتحتم علينا البدء بها، إذا أردنا أن نستشف طبائع الأشياء الخارجية من أسمائها في اللغة، هي أن نسقط الزوائد من الكلمة إن كان فيها زوائد، أو أن نصف النواقص إن كان فيها ما هو محذوف …”
إن دور الحرف بحد ذاته كان في الوقت نفسه مفارقة للذاتية، وكشفاً للحقيقة، سرعان ما أشاد صرح فن قائم بذاته هو فن الكتابة، ذلك الفن الذي لم ينفرد بنفسه كوسيلة تعبير ذهنية بل تخطاها عبر (الفن المعماري، والعديد من التطبيقات العملية اليومية ذات المساس بحاجة الإنسان)، ولقد ظلت أشكاله الفنية المتنوعة غنية بطاقاتها التجريدية إلى الحد الذي عبرت باستمرار عن المعطي الروحي الصرف للحضارة، وذلك باستمرار ظهورها كلوحات حائطية على جدران المسجد، أو ككساء من القاشاني للمنارات والقباب، أو كنص كتابي للقرآن ضمن تكوين زخرفي عام.
ومن هنا، فإن الاكتشاف المعاصر للخط كحرف، ودلالة، وقيمة جمالية، هو بدوره استمرار غيبي لعقلية فنان متجاوز لذاته، وواقعه النسبي في سبيل أن يستقصي أصوله من جذوره، وأن يطور إبداعه عبر ثماره.