يعتبر الخط العربي أحد أبرز مظاهر العبقرية الفنية عند العرب. ولقد كان أولاً وسيلة للمعرفة ابتداءً منذ أن كان جنيناً في رحم الكتابة الفينيقية، ثم توضح في الكتابة الآرامية ثم في الكتابة النبطية المتأخرة، حتى بلغ كماله وجماله في الكتابة العربية، وأصبح فناً له ما يقرب من ثمانين أسلوباً وطريقة، ومن أشهرها الكوفي والثلث والرقعي والفارسي والديواني وفروع هذه الخطوط، بل إن ابن البواب (1) (توفي 425 هـ) قدم في نطاق خط الثلث فقط سبعة عشر قلماً منها، الثلث، المعتاد، المنثور، التواقيع، الجليل، المسلسل، النسخ، المحقق، الريحان، الرقاع، الحواشي … إلخ.
ومن هنا، فقد أكد الفنان المسلم على أهمية الحضور الجمالي للكلمة المقدسة في الأمكنة المقدسة، وأكد على القيمة الجمالية المطلقة للأشكال الهندسية، وبشكل خاص على الخط العربي الذي يعد من أكثر الأشكال قداسة لارتباطه المباشر بدلالته اللغوية المقدسة.
إن كلمة التوحيد والتي تمثل جوهر العقيدة الإسلامية إذ تأخذ بيد البصيرة الإنسانية تهديها الصراط المستقيم، إنما تأخذ بيدها إلى مجال الحق والخير والجمال، وتوحد بينها جميعاً: في السماء والأرض والنفس، في الكون والذات، إنها تربية للذوق والوعي على الإحساس بكل ما هو جميل مونق يُسبى الأفئدة ويفتن النواظر.
رؤية تاريخية
تثبت كتب التاريخ أن الكتابة بدأت صورية (الهيروغليفية القديمة) في مصر، ثم تحولت إلى رمزية كالكتابة المسمارية، والهيروغليفية المتأخرة (الديموطيقية)، وكانت المسمارية منتشرة في بلاد الرافدين وبلاد الشام، وعنها تفرعت نماذج الكتابة المتطورة، التي سارت باتجاه الحروف والأبجديات، حتى اكتملت على يد العرب السوريين، في فترة الدولة الكنعانية الشمالية المسماة (الفينقية) والتي اكتشفت أبجديتها في أوغاريت أو إيفاريت (رأس شمرا) في شمال الساحل السوري.
اختزلت الحروف إلى 30 حرفاً مستفيدين كما يقال من أبجدية سيناء التي كانت منتشرة في شمال مصر (2). ومن الأبجدية الأوغاريتية (الفينقية أو الكنعانية) التي انتقلت مع سفن وقوافل التجارة لتغزو العالم القديم، وتنتشر بشكل واسع، ولتتأقلم أو تتلاءم هذه الأبجدية مع كل لغة أو لهجة لدى مختلف الشعوب. فتنوعت رسومها وأشكالها الأولى التي وضعها العرب السوريون القدماء (3).
ومع تغير الدول، وتبدل الحكومات، كانت الكتابة تتطور وتتحسن، ويتعلمها جيل من جيل وتمشي مع الركبان والقوافل حاملة الحضارة، ومخلدة لها، إلى أن وصلتنا في الوقت الحاضر كاملة ناضجة، تتفاعل مع الحضارة الحديثة، مستوعبة مخترعاتها ومبتكراتها (4).
وبعد أن وصلت الكتابة إلى المرحلة الأبجدية، في أنحاء متعددة من الوطن العربي، وبخاصة في بلاد الشام، وشمال وادي النيل، وبلاد الرافدين، بدأت تتمايز الخطوط والأبجديات كما يحدثنا الباحث على محمد أمين (5).
فمن تطور الخط المسماري في شمال بلاد العرب ظهر الخط الآرامي الذي انتشر بشكل واسع؛ ومنه انحدر الخط النبطي في بلاد جنوب سورية، وكذلك ظهر الخط المسند وانتشر في أنحاء اليمن وجنوب وشرق شبه الجزيرة العربية، وظهرت كتابات منه في موقع “قرية” في شرق المملكة العربية السعودية، ووصل هذا الخط إلى بلاد الشام، لكنه انحسر عنها أمام امتداد الخط الآرامي والنبطي فيما بعد.
ويرجح أكثر من باحث أن الخط العربي الحالي منحدر من أصول سريانية (آرامية) عن طريق الأنباط. أي أن الخط النبطي كما يقول حسن عيسى الظاهر: “إن العرب كانوا يكتبون قبل الإسلام بالخط الحيري، نسبة إلى الحيرة، ثم سمى هذا الخط بعد الإسلام بالخط الكوفي، وهذا الخط الكوفي، كما يقال فرع من الخط السرياني” (6). وفي كتاب “روح الخط” يرجع الخطاط كامل البابا أصل الخط العربي إلى النبطي أيضاً (7). وفي مقال بعنوان “الكتابات القديمة”، استعرض سيد فرج راشد أصول الكتابة العربية الشمالية على ضوء النقوش المكتشفة، وبيّن بدايات الخط العربي اعتماداً على ذلك، مفسراً ما جاء في نقوش (العلا ومدائن صالح وأم الجّمال) وخلص إلى أن هذه النقوش النبطية تبين لنا أن الكتابات العربية هي نتاج تطور الكتابة النبطية، وأنها تحمل كثيراً من مقوماتها وخصائصها في الأصوات والقواعد والمفردات … ومن المرجح أن تكون الكتابة النبطية انتقلت إلى الكتابة العربية في القرن الخامس الميلادي.
بينما يرى ابن خلدون في مقدمته الشهيرة أن الخط العربي نشأ في اليمن ومنها انتقل إلى الحيرة، ومنها إلى قريش، أي أنه يعود إلى خط المسند الحميري، ويعتقد كثير من الباحثين أن الكتابة التي ظهرت في الجزيرة العربية كانت وليدة تفاعل طويل عبر رحلات التجار العرب بين الشمال والجنوب. ولا ننسى أن الخطوط العربية سميت بأسماء المدن والمراكز الإسلامية، بعد الإسلام، التي نشأت فيها، مثل مكة والمدينة والكوفة والبصرة، والبحث في المراحل التاريخية لتطور تلك الحروف ليس أمراً هيناً، وذلك لندرة النقوش العربية قبل عصر النبوة، وعدم احتواء النقوش منها على جميع الحروف، ولكنه يمكننا على ضوء دراسة النقوش العربية التي عثر عليها من تلك الفترة أن نرجع الكتابات العربية إلى أصلين اثنين هما التربيع والتدوير، وهما من أصول الكتابة العربية في جاهليتها وإسلامها.
ويُرجح أن الخطوط العربية في الحجاز كانت تعتمد على التدوير والليونة منذ بداية نشأتها في مدن تلك المنطقة، ولم تكن الفروق بين هذه الخطوط في الخصائص، ولكنها كانت فروق تجويد، ذلك أن العرب عندما عرفوا فن الكتابة كانوا أهل بداوة، ولم يكن لديهم من أسباب الاستقرار ما يدعوهم إلى الابتكار في الخط الذي تعرفوا عليه، ولما ظهر الإسلام في تلك البلاد بلغت الكتابة والخطاطة مبلغ الظاهرة الفنية، حيث صار العرب دولة تعددت فيها المراكز الثقافية، ونافست هذه المراكز بعضها بعضاً على نحو ما حدث في الكوفة والبصرة والشام ومصر، ومراكز الثقافة الإسلامية الأخرى، في المشرق والمغرب (8).
ونجد في الرسالة السابعة عشر لإخوان الصفاء” أن أصل الحروف كلها، والخطوط كلها، خطان لا ثالث لهما، ومن بينهما تركبت الحروف، حتى بلغت نهايتها وذلك عند الخط المستقيم الذي هو قطر الدائرة والخط المقوس الذي هو محيطها.” ولقد تطور الخط العربي بتنويعات قواعده وأشكاله الجميلة والزخرفة عنصراً مهماً في ذلك النسيج المتنوع للفنون الإسلامية، وقد طور ابن البواب وياقوت المستعصمي، ثم تلميذه زمن المماليك ابن الوليد، والزخرفي صندل وابن مندور وغيرهم تلك العلاقة، فأثروا الخطوط بالزخارف بخاصة في نسخ المصاحف والكتب وتزيين المساجد والقصور.
خصائص جمالية
لا غرابة أن يتنوع الخط العربي بعلاماته وطاقاته التعبيرية، حتى يدخل أفضية التشكيل، فالأحفاد الذين ورثوا من أسلافهم النمط الأول للكتابة على الطين أدركوا – كما يقول الباحث محمد الجزائري (9)- ما يحتويه الحرف من دينامية كجنس إبداعي، وقدرة على التطور بحسب ذائقة العصر والبشر والتقدم الاجتماعي والتقني، مما دفع الأحفاد، لأن يقدموا (أيقوناتهم) بحرفنة عصرية ليس على وفق المربع والمستطيل وتحديداتهما، أو بما يشبه النقش على جلود الأنعام والحجر فحسب، بل على الورق المصنع يدوياً أو الحرير أو الزجاج أو على سطوح الطين المفخور والمزجّج، في محاولة منهم لتجاوز النمطية في القواعد، واستثمار العلاماتية ودوالها المفتوحة في أشكال حرة، فالعلاقة الاستاطيقية بين الخط العربي وبين المنمنمات وبين الخط الكلاسيكي المسيحي تمتد بجذورها إلى آكد وبابل، أو فن الأيقونة الشرقي، أي منذ المتدونات الأولى بالخط المسماري، حتى الكتب المترجمة والمؤلفة في دار الحكمة ببغداد المأمون، فصار للخط طرزه وصارت لأنساقه قواعد ثابتة، قلما خرج عليها الخطاطون التقليديون، حيث تمسكوا بنشدان كمال الصنعة، وليبلغوا الإجازة عن الرواد. ويجمع الخط العربي بين الليونة والصلابة في تناغم مذهل، وتتجلى فيه قوة القلم وجودة المداد المستمدة من النفاحات الروحانية التي تهيمن على الخطاط المبدع في لحظة إبداع فني فلسفي لا تكرر نفسها. فمن ساحة الفكر المخزون يقفز نص جذاب أو حكمة مأثورة أو أية كريمة يرافقه تخيل مبدئي لنوع الخط الذي ينبغي أن يُكتب به، ومع إعمال الفكر وإجهاد القريحة تبدأ ملامح التكوين الخطي تظهر رويداً رويداً للروح ثم العين، وذلك بالتوافق المنضبط في النسب المطلوبة بين الحروف والتناغم المألوف بين الحركات، والانطلاقة الوثابة لبعض الكلمات، لتنصهر في علاقة واضحة بين نوع الخط ومعنى الكلام المخطوط في بناء لوحة قادرة على التعايش مع الوسط الفني زمناً طويلاً.
فالحروف العربية تمتاز بأنها تكتب متصلة أكثر الأحيان، وهذا يعطي للحروف إمكانات تشكيلية كثيرة، من دون أن تخرج على الهيكل الأساس لها، ولذلك كانت عملية الوصل بين الحروف المتجاورة ذات قيمة مهمة في إعطاء الكتابة العربية جمالية من نوع خاص من حيث تراصف الحروف وتراكبها وتلاصقها، كما أن المدات بين الحروف والتي يمكن التكيف بها في بعض الحروف تأخذ دوراً في إعطاء الكتابة العربية تناسقاً ورشاقة عندما تكون هذه المدات متقنة وفي مواضعها الصحيحة.
ويمكن أن نلاحظ أن طريقة الوصل بين الحروف تختلف من نوع إلى آخر من أنواع الخط العربي، كما في الكوفي، والنسخي، والثلث، والديواني، والفارسي. وهذا الاختلاف ناتج عن الأسس المتبعة في كتابة كل خط من هذه الخطوط، حيث نجد الزوايا والخطوط المستقيمة سائدة، في أنواع الكوفي، ونجد الأقواس والزوايا في كل من النسخي والثلث، بينما تكون الأقواس الرشيقة والمدات الانسيابية سائدة في الخط الديواني، وتتخذ الوصلات سماكات مختلفة في الخط الفارسي لتعطي للحروف المتباينة في عرضها تناغماً موسيقياً رائعاً.
وكما يقول الباحث محمد معصوم خلف (10) إن مجموع حركة الخط وما يتولد عنها من إشعاع موسيقي مطابق لشاعرية مرئية ساعية نحو اللا مرئي، كل ذلك يحدده النص بالنسبة إلى يد الخطاط الراقصة، يضاف إلى ذلك الغنى الذي يمكن أن يضيفه التشكيل والزخرفة الملحقان بالحروف، فعلامات الفتح والكسر والضم والسكون والتنوين والمد والإدغام والشد كلها عناصر تزينية زخرفية لا غنى عنها لإتمام التناسق، وملء الفراغات، إضافة إلى ضبط الكلمات، وصحة قراءتها، وذلك في خطوط النسخي والثلث والديواني والجلي.
وللزخرفة أيضاً دور كبير في جماليات الخط الكوفي، حيث تضيف إليه وإلى الخطوط السابقة نوعاً من الأبهة والفخامة. كل ذلك يعطي للكتابة العربية تفرداً في جمالها بين الكتابات العالمية، وهذا ما دعا أبو حيان التوحيدي (توفي 414 هـ) في رسالته في” علم الكتابة” وهي من أقدم ما ألف بالعربية في هذا الفن (11) إلى أن يضع شروطاً للخط الجميل، فيقول: والكاتب يحتاج إلى سبعة معان: الخط المجرد بالتحقيق، والمحلى بالتحديق، والمجمل بالتحويق، والمزين بالتخريق، والمحسن بالتشقيق، والمجاد بالتدقيق، والمميز بالتفريق. وبعد أن يشرح كل هذه المفاهيم التشكيلية والجمالية معاً شرحاً مستفيضاً، يختم شروط الخط الجميل بشرط أساسي جامع، فيقول: فهذه جملة كافية متى كان طبع الكاتب مؤاتياً، وفعله مواطئاً، وقريحته عذبة وطينته وطئة.
وهذا ليس غريباً فالخط تحول على يد العرب والمسلمين إلى فن أصيل دقيق، والفن ينقل العواطف الكامنة في النفس، ويفصح عنها بشكل فصيح جذاب، فهو يعبر عن العالم الداخلي للإنسان المبدع، وليس فقط عن العالم الخارجي وعن آثار الإنسان والزمان. ولذلك قال على ابن عبيده: “القلم أصم، ولكنه يُسمع النجوى، وأبكم ولكنه يفصح عن الفحوى، وهو أعيا من باقل، ولكنه أفصح وأبلغ من سحبان وائل، يترجم عن الشاهد، ويخبر عن الغائب. ويرى التوحيدي أن الفن مؤلف من شكل ومضمون، من فكر هو الحكمة وإبداع هو البلاغة، وهو يرى العقول الظامئة والنفوس التواقة للجمال. وقال عبد الحميد بن يحيي كاتب مروان: القلم شجر ثمرته اللفظ والفكر، وبحر لؤلؤه الحكمة والبلاغة، ومنهل فيه ري العقول الظامئة، والخط حديقة زهرتها الفوائد البالغة (12).
لقد كان الخطاط العربي قوة كبرى من قوى الحضارة، فالخطاط هو الذي كتب جميع نسخ القرآن الكريم منذ مصحف عثمان رضي الله عنه، وقبله، حتى بعد ظهور المطابع ظل الخط العربي هو الأسلوب الذي تعتمد عليه طباعة نسخ القرآن الكريم المختلفة.
ونجد أن الخط يأخذ مكانه اللائق في الفن من تجويد وتحسين، وفي استخدامه لأشكال تجريدية، ولقد صار معماري التكوين، ويتقبل كنمط مرئي ومصور، ويعبر عن أسلوب رمزي تجريدي عن الحالات العقلية والعاطفية، فالمدلولات الموسيقية النطقية، ودرجات الحروف الصوتية للحرف الواحد، وتركيبها في تناغم، تناغم الأحاسيس الداخلية مباشرة.
وأنشأ زخارف قائمة بذاتها وزخارف تحتويها الأشكال، استخدم الخط العربي الزخرفة خاصة في الخط الكوفي؛ وذلك الذي تحول من اليابس إلى اللين، ومن الجامد إلى المتحرك بفضل الزخرفة المنضافة إليه، وكان لهذه الزخارف أشكال عدة منها: المورق والمشّجر والمضّفر (13).
وكان الخط العربي وسيلة العلم، فأصبح مظهراً من مظاهر الجمال في الحضارة العربية الإسلامية، وما زال ينمو ويتطور ويتعدد حتى وصلت أنواعه إلى الثمانين، وقد حرك الفنان المسلم الخطوط الجافة وأضاف إليها الزخارف حتى غدت لوحات فنية.
واستخدمت الكتابة في قوالبها الزخرفية محل الصورة، وعكست نوعاً من التعبير له خصائصه الجمالية التي تتيح له التعبير عن قيم جمالية، ترتبط بقيم عقائدية وخلقية، كما عكست حباً للواقع، واحتراماً للنظام وإيماناً بالسمو بخطوطه المتصلة التي تغلب عليها القياس والدقة، وكما استخدم الفنانون المحدثون من العرب وغيرهم الخط في لوحاتهم الفنية، حتى أصبح الحرف وحدة زخرفية بذاته يتكون من تكرارها بالإيقاع التشكيل ليخرج عملاً فنياً متزناً.
وإذا نظرنا إلى المنمنمات، بخاصة أعمال الواسطي في مقامات الحريري، نجد هذا التعاشق بين الخط والرسم كذلك نجده في كتاب (الترياق) المؤلف عام 1199م. إن تقاليد تلك الرسومات متأتية عن ذلك المزيج من الوعي الاجتماعي أو التعبير عنه، والذائقة الجمالية في الحروفية والخط والزخرفة، حيث امتازت منمنمات الواسطي وعبد الله بن الفضل من الفنانين العرب، وبهزاد من بلاد فارس، بهذا المزيج الأخاذ بين الرسم والحرف والزخرفة، حيث امتدت آثار الواسطي إلى كتاب(دلائل الخيرات) وغيره من الكتب (14).
ولقد ضمّن الفنان المسلم كل طاقاته عندما كتب آيات القرآن الكريم على الجدران والواجهات والعقود والأبواب والمنابر، وفي الأماكن المقدسة؛ ليحمل في نفس الوقت شكلاً فنياً على أسس جمالية رياضية. لقد كان الخط العربي وسيلة للعلم، ثم أصبح مظهراً من مظاهر الجمال، يفور بالحياة ويجري فيه السحر، وما زال ينمو ويتنوع ويتعدد، حتى بولغ في أساليب التحويرات الجزئية، فاعتبروه بهذه التحويرات نوعاً جديداً، وتعددت أنواعه بما لم يحدث في أي لغة بشرية أخرى (15).
ولقد كان اهتمام العرب بالخط كبيراً، لأنه الوسيلة التي حفظوا بها تراثهم العريق، وبه كتب القرآن الكريم، والحديث الشريف، والحكم والمواعظ، والأشعار. فتفننوا بابتكار الصفات والألقاب للخط العربي، فهو “هندسة روحانية تمت بآلة جسمانية” (16). واعتبروه فناً مقدساً، يجب أن يجوده كل من مارسه، لكي يظهر للعيان جميلاً. وكان للطرق الصوفية الدينية أساليب متعددة في استخدام الحروف والكتابات للتعبير عن مبادئهم ومعتقداتهم، وللتعبير عن حالات الوجد والسمو الروحي، التي يتصلون فيها بالروح الكلي، وكذلك للتعبير عن توددهم للملأ الأعلى، مستخدمين رموزاً كتابية مختلطة بالرسم أحياناً، لجلاء المعنى، أو بيان الهدف. والرمزية لدى الصوفية لها عمل السحر لا تمس العقل إلا من حيث تثير فيه الخيال والوجدان، ولكنها تمس القلب مساً مباشراً، وبعمق أثرها، وتتضح معانيها مع التكرار (17).
إن الخط العربي هو فن تشكيلي، له عناصره ومقوماته الخاصة به، حيث يمكن أن تتم اللوحة كتابة وتكويناً (شكلا ومضموناً) باستخدام الألوان المتعددة، أو اللون الواحد بدرجاته، أو اللونين (أبيض وأسود أو غيرهما)، كما يمكن أن تكون الكتابة جزءاً من اللوحة التشكيلية، أو أن تكون الحروف في لوحة ما عناصر لا تتعلق بالمضمون، أي أن الحروف، هنا، تكون أشكالاً وهياكل متممة للوحة فقط. وفي هذا المجال كما يقول الباحث على محمد أمين (18): تعددت الأساليب التي تناولت الخط العربي في الفن التشكيلي. وقديماً كان الفن العربي مقتصراً على تنويعات الخط والزخرفة، ثم بدأت تدخل الرسوم المنمنة، التي تحتوي على مخلوقات حية وبشرية في الكتب المختلفة، على سبيل الشرح والتوضيح، أو لوحات مرافقة للقصص والمقامات. وقد خلفت لنا العصور القديمة آلافاً من اللوحات الفنية، القائمة كلياً على الكتابة والزخرفة العربية، كما حوت بطون الكتب أعداداً كبيرة من لوحات الكتابة، فقد تفنن الخطاطون في زخرفة وتذهيب الكتب خاصة القرآن الكريم، مستخدمين الألوان المختلفة بشكل متناسق جميل، أضفي على الكتب روعة وجمالاً.
إن الحروف العربية الغنية بمعطياتها الفنية، كانت، ولا تزال تلهم الفنانين إبداعاتهم، فهذه الحروف تنضوي على عبقرية فذة لا حدود لها، إن من حيث المضمون، أو من حيث الشكل، ولقد اعتمد الفنانون التشكيليون في الوقت الحاضر على عناصر تشكيلية مستمدة من الخط العربي.
وهناك طريقتين للاستفادة من الحرف العربي، الأولى يكون الحرف فيها عنصراً تشكيلياً أساسياً في اللوحة، والثانية لا علاقة للحرف بمضمون اللوحة، إنما يكون الحرف فيها عنصراً تشكيليا فحسب. ففي المجال الأول نجد ميلاً لدى كثير من الفنانين إلى استخدام الكتابة العربية شكلاً ومضموناً بحيث تتكون اللوحة من جملة أو كلمة تكتب بالطريقة التقليدية للخط العربي، أو بطريقة فنية لا تلتزم بقواعد الخط العربي، بل إن بعضهم استخدم الكلمات للتعبير عن مضمون اللوحة بأشكال فنية غير ملتزمين بقوانين وقواعد الخط العربي.
كما قام فنانون آخرون بتجريد الخط العربي واستخدامه في اللوحات التجريدية التي اقتبسوها من الغرب، محاولين ربط التراث العربي بالفنون العصرية، وهم جميعاً استخدموا الخط العربي حروفاً وكلمات، وجملاً، كعناصر تشكيلية تساهم في بناء اللوحة، فإما أن تكون أساساً في هذا البناء في بعض اللوحات، أو تستخدم في حل، أو إشغال الفراغات في لوحات أخرى. وكل ذلك مع الاستفادة من التراث الزخرفي العربي.
وأكثر الخطوط العربية التى تتوافق بشكلها مع الفن البصري (أوب آرت) والتي تسبق في الزمان والمكان ظهور هذا الفن في أوروبا، هو الخط الكوفي المزوي (المعماري)) كما يقول الباحث، وخاصة إذا كانت اللوحات منفذة بأساليب حديثة وألوان متناسقة. وقد استفاد الأوربيون من هذا الفن (19).
الخط والتعبير
ومن هنا يقول الباحث على محمد أمين (20). كانت اللوحات الخطية العديدة التي تعبر عن الحالات الصوفية التي تعود لمذاهب متنوعة، وكانت تعبر عن محبة الله والرسول صلى الله عليه وسلم وأهل البيت والإمام على رضي الله عنه بشكل خاص، وكلها رموز للتهجد والعبادة والتقرب إلى الله تعالى. وتمتاز هذه اللوحات باعتمادها على التكرار الدائري أو المتناظر، أو المتلاحق ضمن مربعات أو أشكال هندسية متنوعة، إضافة إلى أشكال نباتية وحيوانية أو بشرية أيضاً.
وفي العصر الحاضر استخدم الفنانون والخطاطون هذه السمة الروحية الكامنة في الخط العربي. وعلى الرغم من وظيفة الحرف العربي في إيصال المفاهيم والتعبير، وهو هدف لغوي خالص، إلا أن هناك هدفاً باطنياً وروحانياً، فقد استطاع الفنان أن يعي تماماً بحسه الفني المرهف أن مكونات الحروف العربية الصارمة في بنائها الهندسي وقدرتها على التكيف في أي شكل مُعطى، وليونتها في تشكلها البنائي البسيط أو المعقد، تستطيع من خلال كل ذلك أن تتضمن معنى باطنياً يسمو على معناه اللغوي، فالهدف بلا شك كان دائماً التعبير عن حالة لا مرئية مطبوعة بداخل النفس العربية من جهة، ومؤكدة ومثبتة من خلال العامل الديني. وهي تزاوج بوضوح بين المرئي بدلالته اللغوية واللا مرئي بدلالته الفنية والجمالية. لقد دفع التجريد الرفيع في الخط العربي أعظم فناني عصرنا “بابلو بيكاسو” إلى أن يقول:” إن أقصى نقطة وصلت إليها في فن التصوير سبقني الخط الإسلامي إليها منذ وقت طويل”. إن صياغات الحروف العربية صارت عند الفنان المسلم إشارات شاعر هائم أخذ به الحال فتجلى الشوق ذوقاً وترنح بمجاهدات قلبه همسات ابتغي بها القرب من الله، وأن الخطوط العربية قد أصبحت كتابات وابتهالات لبستاني همس من فوق رياض الأشواق لله.
بقلم/ د. بركات محمد مراد
أستاذ الفلسفة الإسلامية
رئيس قسم الفلسفة والاجتماع
في كلية التربية جامعة عين شمس
الهوامش والمصادر:
(1) انظر صلاح الدين المنجد في تحقيقه لكتاب “جامع محاسن كتابة الكتاب” للطيبي، بيروت.
(2) ناجي زين الدين: مصور الخط العربي، ص 299 وما بعدها، مطبوعات المجمع العلمي العراقي، بغداد عام 1968م.
(3) يوسف سمارة: قصة الأبجدية، مجلة سورية السياحية، العدد 5 ص 16 عام 1986م.
(4) أحمد فارس: الكتابة عبر تاريخها الطويل، الفيصل العدد 11 ص 75، الرياض عام 1978م.
(5) علي محمد أمين: عبقرية الخط العربي، الوحدة، العدد 9، بيروت، مارس عام 1992م.
(6) د. حسين عيسى عبد الظاهر: المصحف الشريف من الكتابة على جريد النخل إلى فن التذهيب، مجلة الدوحة، العدد 85 ص 4، قطر عام 1983م.
(7) الغمري عقيل: عبقرية العرب في خطوطهم، الدوحة العدد 95 ص 122 وما بعدها عام 1983م.
(8) د. إبراهيم جمعة: دراسة في تطور الكتابات الكوفية، دار الفكر العربي ص 17 عام 1986م.
(9) محمد الجزائري :الحروفية العربية في التشكيل، الرافد، العدد 94 ص 117، الشارقة يونيو 2005م.
(10) معصوم محمد الخلف: الموازين الجمالية لفن الخط العربي، الخفجي، السعودية، العدد 34 سبتمبر عام 2004م.
(11) التوحيدي: علم الكتابة، تحقيق إبراهيم الكيلاني، لرسائل أبي حيان التوحيدي، بيروت، وانظر د. عفيف البهنسي: علم الجمال عند أبي حيان التوحيدي، بغداد عام 197م.
(12) د. عفيف بهنسي: جمالية الفن العربي ص 125، 126، عالم المعرفة، العدد 14، الكويت، فبراير عام 1979م.
(13) د. مصطفي عبده: الدين والإبداع ص 62، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط 3 عام 1999م.
(14) محمد الجزائري: الحروفية في التشكيل، سابق.
(15) ناجي زين الدين: بدائع الخط العربي ص 457، وزارة الإعلام العراقية، بغداد عام 1973م.
(16) قول مأثور عن الخطاط ياقوت.
(17) مصطفي الحلاج: التصوف والخط والنقطة، جريدة الثورة، العدد 41، ص 11، دمشق عام 1976م.
(18) علي محمد أمين: عبقرية الخط العربي، الوحدة، العدد 9، مصدر سابق.
(19) عبد اللطيف هاشم: جمالية الخط الكوفي، مجلة العربي العدد 338، ص 183، الكويت عام 1987م.
(20) علي محمد أمين: عبقرية الخط، مصدر سابق.