ما زلتُ أذكر كلمات أستاذ مادة المخطوط العربي في الجامعة حين كان يقول: “لا تجد أمةً من الأمم تجعل من الكتابة عنصراً جمالياً مثل أمتنا الإسلامية، فأنتَ تُعلق على جدران بيتك آيات قرآنية ليس فقط للتبرك، ولكن لجمال خطوطها وروعة تكوينها”.
نعم، فلكل أمة فنونها التي تعتز بها وتعتبرها جزءاً من حضارتها وتراثهـا. ويعد الخط العربي أهم ما نفخر به من بين فنوننا الإسلامية والعربية؛ فهو فن عربي إسلامي برع فيه أجدادنا وتفننوا فوصلوا إلى مرتبة الأصالة وبلغوا في أنواعه وتصميماته وزخارفه درجة العظمة والخلود. وقد عبر الخط العربي خلال مساره الطويل عن ملامح حضارتنا العربية الإسلامية، وعكس روحها وطبيعتها، ومثّل تطورها ومعاناتها.
فقد استمر الخط العربي في تاريخ الفن العربي الإسلامي تياراً له شخصيته المعبرة عن كل عصر؛ فكان كالكائن الحي ينمو ويتفرع ويتجدد باستمرار حتى بلغت أنواعه اثنَين وثمانين نوعاً متميزاً مات بعضها واندثر، لأنه لم يكن محاولة أصيلة للتجديد ولم يستطع أن يعكس الضروريات الاجتماعية لحياة الناس، وعايش البعض الآخر حياة الناس فتجلّت في حروفه عبقريةُ الفنان العربي المسلم حتى بلغت ذروة الجمال وقمة الإبداع. ولا نظن أن أمة من الأمم قد تداولت الكتابة بهذا الشكل فجعلت منها فنًّاً قائماً بذاته كما حدث في حضارتنا العربية الإسلامية؛ فكان الخط العربي ولا زال أصل الفنون جميعها لأنه يستمد نبله وشرفه من كتابة آيات القرآن الكريم.
الخط العربي من البداوة إلى الفنون
تلقّى العرب الكتابة وهي على حالة من البداوة الشديدة، ولم يكن لديهم من أسباب الاستقرار ما يدعو إلى الابتكار في الخط الذي وصل إليهم، ولم يبلغ الخط عندهم مبلغ الفن إلا عندما أصبحت للعرب دولة تعددت فيها مراكز الثقافة ونافست هذه المراكز بعضها بعضاً على نحو ما حدث في الكوفة والبصرة والشام ومصر؛ فاتجه الفنان المسلم للخط يحسّنه ويجوّده ويبتكر أنواعاً جديدة منه.
وقد كان العرب يميلون إلى تسمية الخطوط بأسماء إقليمية لأنهم استجلبوها من عدة أقاليم فنسبوها إليها مثلما تنسب السلع إلى أماكنها؛ لذلك عُرف الخط العربي قبل عصر النبوة بالنبطي والحيري والأنباري، لأنه جاء إلى بلاد العرب مع التجارة من هذه الأقاليم. وعندما استقرّ الخط العربي في مكة والمدينة وبدأ ينتشر منها إلى جهات أخرى عُرف باسمَيهما المكي والمدني.
إلا أن الخط العربي لم يقدّر له أن ينال قسطاً من التجديد والإتقان إلا في العراق والشام، بعد أن فرغ المسلمون إلى التجويد والإبداع فيه بعد أن فتح الله عليهم البلاد، وأصبحت لهم عمارة وفنون، واحتاجوا إلى الدواوين. وما يقال عن العراق يمكن أن يقال عن الشام كذلك؛ فقد اتسعت رقعة الدولة في العصر الأموي، وأصبحت دمشق عاصمة الأمويين، وظهر في هذا العصر الترف والميل إلى البذَخ والتحضر، ونشطت حركة العمران، فظهرت الكتابات على الآنية والتحف، واعتُني بكتابة المصاحف وزَخرفتها.
وفي العصر العباسي ترسّخت الكتابة وازدهرت الخطوط وتنوعت واختص كل إقليم بنوع من الكتابة. وجدير بالذكر أن الأقلام (الخطوط) في ذلك العصر كانت تسمى بمقاديرها كالثلث والنصف والثلثين، كما كانت تنسب إلى الأغراض التي كانت تؤدّيها كخط التوقيع، أو تضاف إلى مخترعها كالرئاسي نسبة إلى مخترعه. ولم تَعد الخطوط بعد ذلك تسمى بأسماء المدن إلا في القليل النادر.
وكما جعل المصريون كتابتهم على ثلاثة أنواع: الهيروغليفي (الكهنوتي)، والهيراطيقي (الدواويني)، والديموطيقي (الشعبي). كذلك كان الأمر في خطوط العصر العباسي، فكان لكل خط اختصاصات معينة، ومن ذلك قلَم الطومار: وكان مخصصاً لتوقيع الخلفاء والكتابة إلى السلاطين؛ ومختصر الطومار وكان لكتابة اعتماد الوزراء والنواب والمراسم؛ وقلَم الثلثين وهو لكتابة الرسائل من الخلفاء إلى العمال والأمراء في الولايات؛ وقلم المدور الصغير وهو لكتابة الدفاتر، ونقل الحديث والشعر؛ وقلَم المؤامرات لاستشارة الأمراء ومناقشتهم؛ وقلَم العهود لكتابة العهود والبيعات؛ وقلَم الحرم للكتابة إلى الأميرات؛ وقلم غبار الحلية لكتابة رسائل الحمام الزاجل.
هذا وقد اندثر كثير من هذه الخطوط وبقي بعضها الآخر مستعملاً إلى يومنا هذا، وفيما يلي سنوضّح أهم هذه الخطوط وصفاتها واستخداماتها.
يظن كثيرون خطأً أن الخط الكوفي قد نشأ في الكوفة، لذلك قد نسب إليها. والواقع أن هذا الخط الكوفي قد سُمي بهذا الاسم لعناية الكوفة به وليس لأنه نشأ فيها؛ حيث ازدادت حركة تهذيبه وتجميل حروفه وبهذا انفرد باسم “الخط الكوفي”. وأرجح الأقوال في تاريخ الخط الكوفي أنه اشتُقّ من الخط الحيري أو الأنبارى، وسبب تسميته بعد ذلك بالخط الكوفي لأنه خرج وانتشر في مدينة الكوفة إلى أنحاء مختلفة من العالم الإسلامي مع الجنود الفاتحين، وذلك في عصر ازدهار الكوفة.
وقد كان للكوفة نوعان أساسيان من الخطوط؛ نوع يابس ثقيل كان يسمى “الخط التذكاري”، وكان يستخدم في الكتابة على المواد الصلبة كالأحجار والأخشاب، ويتميز بالجمال والزخرفة، وكان يخلو أحياناً من النقط وترابط الحروف. ونوع ليّن تجري به اليد في سهولة، وهو الخط الذي انتهى إلى الكوفة من “المدينة” وكان يسمى “خط التحرير”، وكان مخصصاً للمكاتبات والتدوين والتأليف.
وقد نتج من المزج بين الخطين نوع ثالث يتصف بالرصانة والجمال، وهو “خط المصاحف” الذي يجمع بين الجفاف والليونة. وظل هذا الخط هو الخط المفضَّل طيلة القرون الثلاثة الهجرية الأولى.
وقد استنبطت من الخط الكوفي أنواع فنية وزخرفية، قسّمها مؤرّخو الفنون الإسلامية إلى “الكوفي البسيط”، و”الكوفي المورق”، و”الكوفي المضفر المترابط”، و”الكوفي المهندس”.
خط الثُّلُث … أمّ الخطوط
ويسمّى خط الثلُث بأم الخطوط وأصلها؛ فلا يعد الخطاط خطّاطاً إلا إذا أتقن خط الثلُث، وهو أصعب الخطوط، يليه النسخ، ثم الفارسي. أما عن تسميته فقد كانت الخطوط (الأقلام) تنسب إلى قلم الطومار؛ وهو أكبر الأقلام مساحة، وعرْضه أربع وعشرون شعرة من شعر البرذون (حيوان يشبه البغال والخيل ويستخدم في نقل الأحمال). وقلم الثلُث أو خط الثلث هو بمقدار ثلث هذا القلم (أي ثماني شعرات) لذلك سمي بخط الثلُث. وهكذا في أسماء بعض الخطوط الأخرى كقلم الثلثَين وقلم النصف.
وينسب إلى الوزير الخطاط “علي بن مقلة” وَضْعُ قواعد خطّ الثلث، وقد سمي خط الثلث في العصور المتأخرة بـ”المحقّق”، وذلك لأن كل حرف من حروفه يحقق الأغراض المرادة منه.
ويستعمل خط الثلث في الكتابة على جدران المساجد والمحاريب والقباب والواجهات والمتاحف، وكذلك في عناوين الصحف والكتب، كما تكتب به أوائل السور في المصحف الشريف، وهو خط يحتمل كثيراً من التشكيل.
خط النَّسخ … خادم القرآن
ينسب البعض اختراع خط النسخ إلى “عبد الله الحسن بن مقلة” وهو أخو الوزير الخطاط “علي بن مقلة”. وهناك من يرى أن خط النسخ أقدم من ابن مقلة بكثير. وأيًّاً كان الأصل في هذا الخط فقد طور ابن مقلة هذا الخط إلى الشكل الذي هو عليه الآن حتى صار يختلف عن الخطوط السابقة. وقد سمي هذا الخط بخط النسخ لأن الكتّاب كانوا ينسخون به المصحف الشريف ويكتبون به المؤلفات، وكان ابن مقلة يُسميه “البديع” لشدة جماله. ويقترب خط النسخ من خط الثلث من حيث الجمال والروعة والدقة، وهو يحتمل التشكيل أيضاً ولكن بشكل أقل من الثلث، ويزيده التشكيل (النقط) حُسناً ورَونقاً.
ويكتب بخط النسخ القرآنُ الكريم والحديثُ الشريف كما يصلح لبعض اللوحات الكبيرة، فقد كتب به على التحف المعدنية والخشبية وعلى الجصّ والرخام. وقد حظي خط النسخ بعناية كبيرة في العراق في العصور العباسية، وقد بولغ في تحسينه في عصر “الأتابكة” حتى عرف بـ”النسخ الأتابكي”، وهو الخط الذي كتبت به المصاحف في العصور الإسلامية الوسطي، وحل محل الخط الكوفي سواءً في كتابة المصاحف أو النقوش على جدران المساجد، وأصبحت السيادة لخطَّي النَّسخ والثلُث. ويمتاز خط النسخ عن خط الثلث في أنه يساعد الكاتب على السير بقلَمه بسرعة أكثر من خط الثلث، وذلك لصِغر حروفه وتلاحقها مع المحافظة على تناسق الحروف وجمالها.
الخط الفارسي… فن وهوية
كان الفرْس قديماً يكتبون بالخط “الفهلوي” أو “البهلوي” نسبة إلى “فهلا” الواقعة بين همدان وأصفهان وأذَربيجان. وعند الفتح الإسلامي لبلاد فارس انتقلت الكتابة والحروف العربية إليهم، وأصبحت الكتابة بالعربية هي كتابتهم الرسمية والقومية، وحلت الحروف العربية محل الحروف الفهلوية الفارسية.
وقد اهتم الفرس بالخط خاصة في أوائل القرن الثالث الهجري؛ حيث قوِيتْ شوكتهم في الدولة العباسية في فارس والعراق، فعمدوا إلى خط النسخ وأدخلوا على رسوم حروفه أشياء زائدة فميزته عن أصله. ويسمى الخط الفارسي أيضاً خط “التعليق”، وقد كتب بهذا الخط كتب الأدب والدواوين.
أما عن خط التعليق الذي يكتب به الفرس اليوم فهو نوع من خط التعليق القديم المخصص للأعمال الرسمية، وهو السائد عندهم حالياً. وقد برع الفرس في خط التعليق فأخذوا يزَخرفونه ويحسّنونه حتى امتاز بجمال حروفه ومَيلها. كما أن حروفه صارت مختلفة السمك والطول تبعا للقاعدة والذوق، كما تمتاز حروفه بدقتها وامتدادها. وهو لا يحتمل التشكيل ولا التركيب وهو في ذلك يشبه “خط الرُّقعة”. ويستعمل الخط الفارسي كذلك في كتابة عناوين الكتب والمجلات، وقد سمي بالتعليق لأن حروفه معلقة بين خطي النسخ والثلث أي أنه يجمع بينهما. ويستعمل الخط الفارسي الآن للكتابة في إيران والهند وأفغانستان وباكستان.
ويوجد ثلاثة أنواع من الخط الفارسي: “الفارسي العادة” وهو المعروف حالياً بالتعليق؛ و”خط شِكَسْته” وهو خط صغير ورفيع، وتعني كلمة “شكسته” المكسور، ويسمي بالتركية “قِرْمَه تعليق”؛ و”شكسته آمير” وهو خليط من النوعين السابقين.
خط الرُّقعة … إيقاع سريع
يعد خط الرقعة (بضم الراء) من الخطوط المتأخرة، أي حديثة الظهور، وقد اخترعه ووضع قواعده الأستاذ “ممتاز بك مصطفى أفندي المستشار”، وكان ذلك في عهد السلطان “عبد المجيد خان” (ت:1861م). ويرى البعض أن نشأته ترجع إلى عهد السلطان “محمد الفاتح”.
ويمتاز خط الرقعة بقصر حروفه، ويحتمل أن يكون قد اشتُقّ من خط الثلث والنسخ. وخط الرقعة خط جميل يمتاز باستقامة حروفه أكثر من غيره من الخطوط، وهو لا يحتمل التشكيل أو التركيب، وفيه وضوح ويقرأ بسهولة، ويعد أسهل الخطوط جميعاً، كما أنه يعد الأصل في الكتابة اليومية لدى الناس، حيث يستخدم في المراسلات والكتابات اليومية وعناوين الكتب والمجلات وفي الإعلانات التجارية، وذلك لبساطته ووضوحه وبعده عن التعقيد.
ويوضح أحد الخطاطين خصائص هذا الخط فيقول: “وقد جاءت بساطة خط الرقعة لكون حروفه خاضعة للشكل الهندسي البسيط، فهي سهلة الرسم معتمدة في ذلك على الخط المستقيم والقوس والدائرة فضلاً عن طواعيته لحركة اليد السريعة، إضافة إلى كون حروفه واضحة القراءة ذات شكل جميل”.
ترجع نشأة هذا الخط إلى العصر العثماني، وقد سمي هذا الخط بالديواني لاستعماله في الدواوين العثمانية. وقد كان هذا الخط قديماً في الخلافة العثمانية سرًّاً من أسرار القصور السلطانية لا يعرفه إلا كاتبه، أو من ندر من الطلبة الأذكياء، لذلك كانت تكتب به جميع الأوامر الملكية والإنعامات والفرمانات.
وقد انتشر الخط الديواني في عصرنا الحديث انتشاراً كبيراً بفضل مدرسة الخطوط العربية الملكية بمصر، حيث بسّطه وطوّر فيه الخطاط المصري “مصطفي بك غزلان” حتى أطلق عليه في مصر الخط الغزلاني. وينقسم الخط الديواني إلى نوعين: “ديواني رقعة” وهو ما كان خاليا من الشكل والزخرفة، ولا بد من استقامة سطوره من أسفل فقط؛ “ديواني جلي” والجلي بمعني الواضح الظاهر، وهو ما تدخلت حروفه وكانت سطوره مستقيمة من أعلى ومن أسفل، ولا بد من تشكيله بالحركات وزخرفته حتى يكون كالقطعة الواحدة.
ويتميز الخط الديواني بتشابك حروفه مما يصعب على غير المتخصصين قراءته أو الكتابة به. والخط الديواني جميل ومنسَّق للغاية، وتكون كتابته الدقيقة عادة أجمل من الكبيرة. ومن الطريف أن هذا الخط ما زال يستعمل حتى يومنا هذا في مراسلات الملوك والأمراء والرؤساء، وكذلك في كتابة البراءات والمراسم والأوسمة والرفيعة وبطاقات المعايدات، فضلاً عن قيمته الفنية في اللوحات والنماذج التشكيلية.
الطُّغراء … ظل جناح الطائر المقدس
“الطرّة” أو “الطغْراء” أو “الطغْرى” هو شكل جميل يكتب بخط الثلث على شكل مخصوص. وأصلها علامة سلطانية تكتب في الأوامر السلطانية أو على النقود الإسلامية أو غيرها، ويذكر فيها اسم السلطان أو لقبه.
وقيل إن أصل كلمة “طغراء” كلمة تتارية تحتوي على اسم السلطان الحاكم ولقَبه، وأن أول مَن استعملها السلطان الثالث في الدولة العثمانية “مراد الأول”. ويروى في أصل الطغراء قصة مُفادها أنها شعار قديم لطائر أسطوري مقدَّس كان يقدسه سلاطين “الأوغوز”، وأن كتابة طغراء جاءت بمعنى ظل جناح ذلك الطائر.
وأَقدم ما وصل إلينا من نماذج شبيهة بالطغراوات ما كان يستعمل في المكاتبات باسم السلطان المملوكي الناصر “حسن بن السلطان محمد بن قلاوون” (752 هـ).
وقد أدّى كتابة الاسم على شكل الطغراء إلى التصرف في قواعد الخط، ويكون الطغراء في الغالب مزيجاً من خط الديواني وخط الثلث.
خط التاج … ذهب التاج وبقي الخط
وقد ابتدع هذا الخط في العصر الحديث على يد الخطاط المصري “محمد محفوظ” الخبير الفني في المحاكم في عهد الملك “فؤاد”، وكانت فكرة هذا الخط هو وضع إشارات في أعلى الحروف تمثل التاج الملكي.
وقد رجح استخدامه مع حروف خط النسخ لأنها أجمل وقعاً فيه من سائر الخطوط وإن كان قد استعمل مع خط الرقعة.
المصادر
(1) الخط العربي: أصوله، نهضته، انتشاره، عفيف بهنسي، دار الفكر، دمشق.
(2) الخط العربي: رحلة التحسين والتجويد، باسم ذنون، دار الكتاب، القاهرة.
(3) الخط والكتابة في الحضارة العربية، يحيى وهيب، دار الغرب الإسلامي، بيروت.
(4) الخطاطة: الكتابة العربية، عبد العزيز الدالي، مكتبة الخانجي، القاهرة.
مجلة حراء – العدد: 7، (أبريل – يونيو) 2007