رغم الثورة التكنولوجية الكبيرة وما يرافقها من تطور في أدوات الكتابة، وتطور الطباعة من خلال الوسائل التكنولوجية الحديثة، بقي الخط العربي فناً مشرقياً يختصر حضارة في أروع تجلياتها.
عرّف “ابن خلدون” الخط بأنه: “رسوم وأشكال حرفية تدل على الكلمات المسموعة الدالة على ما في النفس، فهو ثاني رتبة من الدلالة اللغوية وهو صناعة شريفة، إذ الكتابة من خواص الإنسان التي يميز بها عن الحيوان …”
وكانت الكتابة تعبيراً عن اللغة، والشكل المنطوق يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالصورة المكتوبة، ومن هنا كان الخط يعكس الصورة المنطوقة بكل ألوانها وما تحويه من مشاعر وأحاسيس وجمالية، وهذا ما جعل الخط يتحول إلى فن، ويحتوي على هذا الكم الكبير من الأشكال والصور والشطحات. وكان للخط تاريخ طويل وتطور مع تطور الإنسان والحضارة، وهذا ما أكد عليه “ابن خلدون” بأن الخط من الصناعات الإنسانية التي تقوى بقوة الحضارة، وتضعف بضعفها.
وعرفت الكتابة منذ العصر الجاهلي، ولم تكن مغيبة الحاسة الجمالية فيها، ولو أنها اعتمدت أكثر في الأغراض التجارية والسياسية.
لم يأخذ الخط موقعه كظاهرة حضارية سوى مع ظهور الدين الإسلامي، وحينها كانت مهمة الخطاطين مهمة نبيلة، إذ ما كان ينزل على الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) من وحي استدعى كتابته، وكان الخطاطون الذين قاموا بهذا الدور رجالاً أكفاﺀ، وأصحاب خبرة في هذا المجال، وكان من بينهم الخلفاﺀ الراشدون، ومجموعة من الصحابة الذين خطوا كتاب الوحي الذي غدا ديناً لنصف البشرية. ومن هنا كانت أهمية الدور الذي أوكل للخطاطين، إذ كان لهم فضل كبير في انتشار الدين الإسلامي، والآيات القرآنية الكريمة خير دليل على إبداع هؤلاﺀ الذين سكبوا كل وجدانهم في خط أشرف ما أنزل على بشر.
هل بالفعل أن “الخط بالنسبة للفنان العربي فعل عبادة، إذ بواسطته تكتمل الآية في تبليغ كلام الله إلى المؤمنين”؟ يمكن أن نسميه كذلك إذ أن عمل الخطاط هو إبداع؛ ولكن ليس لأي يد أن يكون لها هذه البصمة، وهذا ما جعل البعض يربط بين الخطاطين والصوفية، حيث للحرف جلالة خاصة، وترك لنا التاريخ “مشاهير من هذه المدرسة كان لهم شطحاتهم كأبو الحسن البصري، ومحيي الدين بن عربي…” الذين تركوا الكثير من الإنتاجات الجمالية الجليلة.
وفي الصوفية تفرض على الخطاط شروط وطقوس خاصة ليتمكن من أن يمارس عمله، ويبدع فيه، وأهمها “الطهارة التامة، المكان والزمان، واستقبال القبلة، صلاة الركعتين، تلاوة آيات خاصة قبل البدﺀ وعند الختام، اختيار الأقلام وبريها”… هذا ما قارب بين الكتابة والشطح الصوفي الذي يرتبط بالوجدان الداخلي للخطاط.
“الله نور السماوات والأرض” في هذه الآية يلتقي الخطاط والصوفي، لأن الخط أصيل في الروح وإن ظهرت بحواس البدن هكذا يقول “النظام”.
ويلتقي الخطاط والصوفي في الروح وفي النقطة التي تشكل لهم الانطلاق والعودة، البداية والنهاية، وينفرد اسم الجلالة “الله” واسم نبيّه (صلى الله عليه وسلم) في ميزات خاصة وتفرّد في الخط العربي.
تطور فن الخطاطين وكان دائماً متعايشاً مع كل زمان ومكان، وأصبح الخط حاجة ضرورية للحياة، وصحيح أن الخط العربي وتشكيله جاﺀ مرافقاً للإسلام إلا أنه ما لبث أن برزت صلاته مع الفلسفة وباقي العلوم، مما جعل الخط يتلقح بأساليب وأشكال جديدة، لاسيما الكتابة على أسس رياضية هندسية، وهناك عدة نماذج من الخطوط، وتفرّعت عنها أنواع عديدة وصلت إلى 137 إسماً موزعة على 11 نموذجاً، وتسمياتها تعود إلى أماكن أو أشخاص ترتبط بأصحاب هذه الخطوط.
والمرحلة المهمة التي كان للخطاطين فيها الدور الأبرز كانت تلك المترافقة مع حركة الترجمة مع السريان النساطرة. إذ كان هؤلاﺀ المبدعون يضخون المئات من المؤلفات المعربة والمترجمة على شكل مخطوطات ونشرها. كان هذا قبل اكتشاف الطباعة وحصول الثورة في مجال التكنولوجيا والكمبيوتر، إذ كان الخطاطون هم أصحاب مهنة والخط كان مهنتهم، ولكنهم أقرب اليوم إلى الفنانين والحرفيين يقدمون تحفاً جماليةـ وبعضهم يشكلون استمرارية لطقوس بعض الأديان الباطنية بنقل تراثهم من جيل إلى جيل من دون استعمال الطباعة.
البلد، العدد 2022/ 2009-10-10