يعد الفن الإسلامي خطاباً متحد المعاني، ولغة متفردة عبّرت عن وحدة المسلمين وتماسكهم واتصالهم الوجداني على الرغم من تباعد الأقطار والأقاليم، والفنون بوصفها وعاء لقيم الشعوب وانعكاس لمفاهيمها، سجلت بصدق مفهوم المسلم للكون وللحياة، وقدمت البديل الواقعي للتصورات الجامدة والرتيبة والخاوية التي راوحت عندها فنون الأمم الأخرى حقباً طويلة. والخط العربي أحد صيغ الفنون الإسلامية حيث أثرى حياة المسلمين وما يزال بتوكيده الصلة الوثيقة بين العقيدة والتعبير الفني الملتزم.
ولما له من ارتباط بفنون التشكيل والزخرفة مما منحه القدرة على التأثير العميق في فنون الحضارات الأخرى. فمن تزيين جدران الكهوف في عصر الفخار والمعدن إلى حضارة الأكاديين والعموريين والإيبلائيين الذين هم أصل لغة العرب، ومن عهود السيطرة الرومانية والبيزنطية إلى الشخصية الإسلامية المستقلة التي تبنت تحريم التصوير، فأبدعت الكلمات في الصورة قلباً وقالباً.
ومن ثم أدخل هذا الفن إلى الانتماء النسبي في العمل نقلاً وتكراراً أو التزاماً بالأصالة والحداثة مروراً بالفن التشكيلي وفن الرقش والأسلوب التجريدي والرموز الهندسية الصرفية إلى زمن فن اللغز أو الطلسم إلى نظرية البعد الواحد وإلى الفن المألوف وإلى الكتابة العصرية. رحلة شاقة سار عليها هذا الفن الجميل فتمخضت بالولادة جيلاً بعد جيل، وعبقرية تلت أخرى، فهذا أبو حيّان التوحيدي يقول منذ اثني عشر قرناً خلت “أنه هندسة روحانية بآلة جسمانية”.
وفي الغرب الأوروبي، ومع بداية الثورة التي تفجرت في نطاق الفكر والفن وأسلوب الحياة، أعلن الفنانون خلالها ثورتهم على الحضارة البرجوازية مستخدمين في ذلك الرفض الكامل للقيم التقليدية والنزوح بعيداً عن الواقع الذي تمَّ سقوطه، وتجلى هذا النزوح باللجوء إلى بلاد الشرق. حيث أصاب الشرق فناني الغرب بلفحة من الدفء، وقبس من الشمس أضاءت ألوانها، لقد رحلوا بحثاً عن كل غريب ومألوف، فقد انتقل جزءاً من البهاء الشرقي إلى صميم أعماقهم. وكان محطّ هذا الاستشراق الفني مدينة البندقية، حيث يستقبل أمراؤها في ثيابهم الدمقسية السفراء الأتراك المعممين مصحوبين بالجنود الانكشارية المدججين بالأسلحة العجيبة، فبدأ الاستشراق الفنّي فردياً منذ القرن التاسع عشر وكان “دولا كروا” الفاتح الأول لطريق الاستشراق في الجزائر والمغرب عام 1830م، وأعرب “تيوفيل غوتيه” قائلاً، بأن السفر إلى الجزائر أكثر أهمية بالنسبة إلى المصورين الغربيين من السفر إلى إيطاليا.
وأعطى هذا الانطباع نقطة الالتقاء بين الغرب والشرق، وأن كتّاباً آخرين زاروا البلاد العربية في بداية القرن العشرين من أمثال موريس بوريس ودُهامل، وفلوبير وأندريه جيد وموباسان وريكله، فأجمعوا جميعاً على تعريف فنانيهم على ذلك العالم المدهش الذي كانوا يجهلونه في بلاد الشرق. وامتد التأثير العربي على الفن الغربي عبر المعاهد التي تأسست في البلاد العربية على يد الغرب، فالباحث اليوناني “الكسندر بابا دوبولو” كتب بالفرنسية ما معناه “إن الخط العربي فن رائد وأساسي، وذلك على عكس موقع الخطوط لدى العديد من الشعوب الأخرى”. وباحث آخر هو “تيتوس بوركهارت” أشار إلى الأهمية الفنية للخط العربي فاعتبره ” أيقونة العرب والمسلمين” أما “أوليه غرا بار” فقد أولى اهتمامه الرئيسي لفن الزخرفة الإسلامية، واعتبر الخط العربي جزءاً متمماً لهذه الزخرفة، وأضفى عليها سمة الكتابة المقدسة، ويقول “غوستاف مورو”: “إن الشرق هو مخزن الفنون، وإنه قبلة الفنان الحديث وأن فن المنمنمات قد فجّر جميع إمكاناته وأنه عليها أكد أبحاثه الفنية”. كما تقول الناقدة الألمانية “سيجريد كالا” حول مشاهداتها في معرض السنتين الذي أُقيم في بغداد عام 1974م: “لعلني لا أُغالي كثيراً، فمن جميع ما شاهدته لم أجد نتاجاً يفصح عن مصدره العربي وينطق به، إلا ذلك الإنتاج الذي يتصل باللغة أي الذي يتخذ من فن الخط العربي وحروفها مادة له”.
ويضيف ناقدٌ أوروبي هو “روبير غرينا” قوله: “أصبحت الكتابة في قوالبها الهندسية مما يمكّن للخط الكوفي أن يتخذ ألف شكل وشكل، وأن يعطي دلالات جديدة لأساليب عديدة للوصول إلى أن تصبح ضرباً في المستحيل، وتصير الوظيفة عملية تأمليّة أو تربوية قريبة من الصلاة”. ويعترف بيكاسو مرةً: “إن أقصى نقطة أردتُ الوصول إليها في فن التصوير، وجدت الخط الإسلامي قد سبقني إليها منذ أمدٍ بعيد…”. ويقول أُستاذ الدراسات الشرقية في جامعة استانبول المستشرق ريتر “إن الكتابة العربي أسهل كتابات الدنيا وأوضحها، فمن العبث إجهاد النفس في ابتكار طريقة جديدة لتسهيل السهل وتوضيح الواضح”.
كما أن مارسيه يقول في كتابه الفن الإسلامي: “إن وحدة الرقشة الزخرفية بغير بداية أو نهاية، فهي سرمدية استوحت قواعدها من القواعد الرياضية إلى تكرار الموضوع والرغبة في حل معادلة اللانهاية”. كما يؤكد المؤرخ الإنكليزي “أرنو لد توينبي” حيث يقول: “لقد انطلق الخط العربي الذي كتب به القرآن غازياً ومعلماً مع الجيوش الفاتحة إلى الممالك المجاورة والبعيدة، وأينما حلَّ أباد خطوط الأمم المغلوبة”.
ويضيف الفيلسوف” روجيه جار ودي” الذي اعتنق الإسلام وسمي “برجا جار ودي”: “إن الفن الإسلامي كالعلم الإسلامي والحياة الاجتماعية والفلسفة الإسلامية التي لا يمكن فهمها إلا من خلال مبدئها الأساسي وهو العقيدة الإسلاميّة”. ويقول “روم لاندو” في كتابه الإسلام والعرب: ” حرّم على المسلمين الاهتمام بالفن التشبيهي، ومن خلال هذا السعي أحدثوا فنّاً يستطيع أن يدّعي بصرف النظر عن محاسنه أو نقائصه الأخرى – أنه واحد من أصفى الفنون التي نعرفها”.
ويقول “غوستاف لوبون” في كتابه حضارة العرب: ” للخط العربي شأن كبير في الزخرفة فهو ذو انسجام عجيب مع النقوش العربية، ولم نجد في الزخرفة حتى القرن التاسع من الميلاد غير الخط الكوفي ومشتقاته كالقيرواني والكوفي القائم الزوايا ،وتؤخذ هذه الكتابات من القرآن الكريم على العموم، وأكثر هذه الكتابات استعمالاً هو السطر الأول من القرآن الكريم وهو: (بسم الله الرحمن الرحيم)، وإن كل بلد خفقت فوقه راية الرسول، تحول بسرعة فازدهرت فيه العلوم والفنون والآداب والصناعة والزراعة أيّما ازدهار”. ويعترف المبشر “ليندن هاويس” في كتابه الإسلام في أفريقيا الشرقية” بأن الأوروبيين المستعمرين قضوا على الحضارة، وتركوا الخراب في المعاهد والمعابد، حيث حلوا يخربون وينهبون، أما العرب المسلمون فإنهم نقلوا إلى أفريقيا الكتابة والعمارة، وأدوات الحضارة”. كما وصف الرسام الإيطالي الشهير “أندريو لوتي”: “إن الخط العربي كسيمفونية متناسقة الأنغام تتجدد كلما نظرت إليها”. كما أضافت الوزيرة البريطانية “كيث هوي”: “إن الحضارة الإسلامية أسهمت بشكل فعّال في الحضارة الغربية، كما أن الفن الإسلامي والعلوم والفلسفة الإسلامية والطب أثرت في حياة الغرب بصور عديدة لا يمكن إنكارها”.
أما المستشرق الفرنسي “ماسينيون” فقد كان رجلاً منصفاً عندما قال: “إن المسلمين صنعوا في الأندلس عمارة متينة راسخة في الأرض، وفي الوقت نفسه تكاد تطير في الهواء لخفتها ورشاقتها”. وقد قالت إحدى الناقدات عندما خرجت من معرض الخطاط الدكتور “محمد غنّوم” في وارسو حول انطباعها عن المعرض: ” لاأُريد أن أقرأ ما يكتب… ألا تكفي هذه السمفونيات التي تعزف، وتلك الألوان الرائعة القادمة من المشرق”. وفي افتتاح معرض الفنانة التركية المهندسة “عمران تازجان” باستانبول، ألقت الدكتورة الألمانية “آن ماري شيمل” محاضرة شيقة عن فن الخط في العالم الإسلامي، تحدثت فيه بإسهاب شديد عن الرابطة الحميمة بين الخط العربي والحضارة الإسلاميّة وعن تاريخ تطور فن الخط وفلسفته ومكانته وأهميته في الثقافة الإسلاميّة ومختلف مدارسه ومبادئها العامّة.
ولما سقطت قرطبة سنة 304 للهجرة – 1236 م، عُرض على “شارل الخامس” اقتراح بهدم المسجد الجامع الذي أنشأه عبد الرحمن الداخل (صقر قريش) سنة 180 هـ، والذي يُعد من أكبر الآثار العربية الإسلامية في الأندلس، فوافق على هدمه، ولم يكن قد رأى المسجد، ولما مرّ بقرطبة بعد ذلك ورأى المسجد راعه مما رأى من جلال الفن وعظمة المعمار فقال: “لو كنت قد علمتُ ما وصل إليه ذلك لما كنتُ قد سمحتُ بأن يُمس هذا البنيان الضخم، لأن ما بنيتموه موجودٌ في كل مكان وما هدمتموه فريدٌ في العالم”. ويقول الدكتور “مراد هوفمان” السفير السابق لألمانيا بالمغرب في كتابه “الطريق إلى مكة”: “إن من بين اختياري للإسلام إعجابي وتأثري الشديد بجمال الفن الإسلامي، إذ اكتشفت أن الإسلام ذو طبيعة جميلة متصلة بالفن، وكان أكثر الأعمال التي أغرتني قصر الحمراء في غرناطة، والمسجد الكبير في قرطبة، فقد وقفت أمامهما بإجلال وأيقنت أنهما إفراز حضارة راقية واعية”.
ويقول المؤرخ “فرانسيسكو فلاسباسان”: ” لو نزعنا الجصَّ عن جدران كنائسنا لألفينا تحته كتابات مذهبة باسم الله القدسي بحروف كوفيّة، ولو خدشنا بالأظافر بشرتنا الأوروبية الصفراء لبرز لنا تحتها لون بشرة العرب السمراء، إن قوميتنا الغربيّة هي العرض الظاهر أمّا القوميّة الشرقية فهي حقيقتنا الخالدة”. وبمناسبة افتتاح معرض فنون العالم الإسلامي في أمستردام، أكدَ البروفسور “ميخائيل بتروفسكي” مدير متحف الأرميتاج، أن معرض الفنون الإسلاميّة يهدف إلى إبراز العناصر المشتركة بين الإرث الحضاري الإنساني والإرث الإسلامي، واعتبر أن الرسالة التي يخرج بها المرء من مشاهدة المعروضات تختصر في ثلاث كلمات: الحياة، الإيمان، الأمل، وهي رسالة تشترك فيها جميع الأمم والشعوب. وهكذا فالخط العربي خط غني بالإمكانيات الفنيّة والتعبيرية ولا يمكن الاستهانة به، كما لا يجوز التقليل من أهمية إدخاله في اللوحات الزخرفية، وقد اعتبر “كانط” الزخارف الإسلاميّة أجمل من غادة حسناء. لذلك يقول “أراغون” في نص مختار من مجنون ألزا: “لا يبقى على الفنان إلا أن يتنحى بألوانه أمام الكتابة، تزحف من اليمين إلى اليسار على جباه النوافذ، أو على تواريق العماد، حيث يخط القلم على البياض حرفًا فاحماً أسوداً شبيهاً بكوكبة فرسان في عباب الصحراء، وثّاب الرشاقة كسيوف مسلولة، كل حرف حط قدماً في الرمال كأنه انفلات فهد جسور، أو كأنه اندياح جناح أسود فجأة فوق الغبار”.
والبروفسور “مارتن لنكس “خبير المحفوظات العربية يصف الخط العربي بأبعاده التشكيلية والمعنوية، فلمعنى الكلمة ودلالتها ولمظهرها التشكيلي ما يتناسب مع الدلالة المعنوية، والدكتور “أكمل الدين إحسان أُوغلي” (مدير مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلاميّة باستانبول) والذي يشغله الآن الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي، يصف الخط العربي بأنه إلى جانب تعبيره عن قيم فنية وجمالية معينة، فإنه ينقل الكلمة المجردة بمضمون ومعنى لتمتزج الثقافة بالفن، ويصبح وسيلة راقية لإيصال المعرفة إلى الإنسان.
إذا كانت تلك اعترافات شعبٍ شاهدوا هذا الفن المبدع، فكيف بالفنّان الذي يعيش مع هذا الفن منذ لحظة الولادة إلى زمن الجمالية وعنصر الكمال، لتكمن العبقرية ويُهدى إلى شغاف القلب صورة من شيء خصّه الله له دون غيره.
المراجع:
– مجلة الوحدة العدد المزدوج / 70- 71 / 1990م المملكة المغربية – الرباط
– جريدة البعث الأسبوعي، العدد 8927 سنة 1993م دمشق، الجمهورية العربية السورية
– قواعد الخط العربي هاشم محمد البغدادي – الطبعة المزيدة 1980 م بيروت، لبنان.
– الحروف العربية المستديرة – محمد حداد – مكتبة مصر، القاهرة.
– الخط العربي، معهد إعداد المدرسين – قسم التربية الفنيّة – وزارة التربية – دمشق 1998م
– التاريخ الإسلامي د/ شوقي أبو خليل / دار الفكر، دمشق.
– محاضرة للخطاط المصري سيد إبراهيم “الخط العربي وتطوره” تاريخ 29/12/1977م
عن موقع رابطة أدباء الشام