يتضمن الخط قدرة فائقة على احتمال خصائص الفرد وميزاته أو أبعاده النفسية والفكرية والعاطفية، باعتباره الوسيلة المعرفية الراقية، المندمجة بالتفكير، الأكثر رهافة واستجابة وتأثراً وتأثيراً بالكون والذات معاً، ومن هنا نشأت أساليب تحديد الخط وقراءته، واكتسبت أهمية خاصة في كثير من التخصصات والحقول، كعلم النفس وعلم الجريمة والانثربولوجيا وغيرها.
غير أن الخط من ناحية أخرى، هو حامل لأبعاد ثقافية واجتماعية وحضارية تشترك فيها الأمة أو المجتمع كله، ذلك أن للخط ومع اختلاف كل فرد أو ذات نفسية في صياغته وتشكيله، هناك جزء عميق وكبير متعارف عليه يمثل القيمة الكلية أو الفلسفة الكلية والمطلقة للمجتمع، فإذا كان تشكيلي لحرف معين، يعبر عن خصائصه النفسية الداخلية (بطرق معروفة لدى أهل الاختصاص)، فإن الحرف أو الخط في حالته المثالية والمطلقة، لا يحمل خصائص الفرد فقط، وإنما يحمل الاطلاقية الحضارية للأمة جميعاً (كل الأفراد)، وهو ما نجده في القواعد والمعايير والقوانين الأساسية التي يقوم عليها فن الخط، والتي أرساها الأوائل، وقامت الأمة بتطويرها وتحسينها بعد ذلك، حتى اكتسب الخط شكله الحالي الذي يصعب اختراقه، وبالتالي فإن إمكانية قراءته ثقافياً وفلسفياً هو أمر مشروع، بل لا بد من القيام به، من أجل إعادة الاعتبار للحرف العربي، بقراءته من الداخل والإحساس به ككيان مرهف، حامل للفكر والفلسفة، مثل الإنسان بالضبط.
من هذا التحديد يمكننا القيام بمحاولة متواضعة لقراءة الحرف العربي من الداخل، وما يقف خلفه من قيم فكرية وحضارية، وسنرى أنها (أي القيم) بقيت كما هي، عذراء، لم تمس. حتى لكأن الخط، قام بحراستها من كل هجوم بطرق لم يعرفها أحد حتى في الوقت الذي كان يهاجم فيه بشراسة.
الخط الحامل للثقافة:
إن الخط العربي هو تشكيل خطي، حامل لقيم صوتية، لكن صياغته في الواقع، تضيف إلى هذه القيمة الصوتية قيمة فكرية وحضارية وأخلاقية وفلسفية، فإذا أخذنا على سبيل المثال الحرف “أ”، كتعبير لصوت معين، فإن وقوفه واستناده على السطر عمودياً ودون سائر الحروف، بالإضافة إلى وجوده الدائم والأبدي في مقدمة الكلمة، يضفي عليه خصائص وجدانية تنتمي إلى ثقافتنا، كأن يكون هو الدعامة الأساسية في بناء الأحرف كلها، إذ يمثل مفهوم القيام على الأمر، والسند والدعم والبداية المكرسة لما هو علوي وسماوي، آت من الغيب، ونازل منه، أو متنزل منه، ومن هنا يأتي حضوره في بداية الكلمة، أو في وسطها، حيث يلعب دور الدعامة الضرورية لغوياً وفكرياً للكلمة، لذا نجد أن هذا الحرف يتكرر كثيراً في الخط العربي والكلام العربي، ففي كلمة مثل: لا إله إلا الله، سنجد أن ما يمثل الجزء الأكبر هو ألف، إذا اعتبرنا أن الألف يدخل أيضا في تركيب حرف اللام، لنرى أن هذه الكلمة تختلف عن أي كلمة أخرى، بنسقها العمودي والمتنزل من الأعلى، والقاطع أيضاً، الذي لا يحتاج إلى الامتداد إلى الآخرين، المتنزه، المتفضل على من سواه…
لذا فإن الحروف الأخرى دون الألف، سنجد أنها تعتمد بشكل أساسي على الانحناء، كحروف ص، ض، ع، ف، و، ح … والانحناء يعبر عن المرونة، كما يعبر عن الاحتواء الذي يمثله الحضن المحتاج إلى الامتلاء بالشعور والإحساس، فهو بحاجة إلى الآخر، أي الفرد القارئ، الذي يمثل جزءاً لا يتجزأ من الحرف نفسه، والذي يشعر بالحنين نحو الحرف، من دون أن يفهم أن سبب ذلك هو النداء العميق الذي يخرج من الانحناء الآسر، بصورة فكرية، أو لاشعورية، لا نقوم بفهمها إلا على شكل حنين.
فهناك إذن علاقة وثيقة بيننا وبين الخط، فهو بحاجة ماسة إلينا، كما أننا بحاجة ماسة إليه، ومن هنا يعبر الحرف العربي عن تلك العلاقة الوثيقة بين الأفراد العرب، ككتلة جماعية، قائمة على الرغبة في الآخر ومشاركته وجدانياً وعاطفياً، وليس مادياً فقط، حيث يصعب أن نجد مفهوماً للفردانية في المجتمعات العربية، وهو ما عبر عنه الحرف أصدق تعبير… إن حرف النون بشكله المنحني، المعبر عن الرغبة الملحاحة في الضم، والنقطة الوحيدة التي تقوم عليه، من دون أن تسقط فيه، أو تلتصق به، يعبر بشكل فلسفي عن الكونية التي لا تلتصق فيها الكواكب ببعضها، أو بالأرضية التي يؤدي وجودها إلى الإحساس بالنقص والحاجة إلى السند والدعم، وإنما تبقى معلقة في السماء، سابحة في الفلك اللامرئي، وقد أقسم الله بهذا الحرف لقيمته الكبرى فقال: ((ن. والقلم وما يسطرون، ما أنت بنعمة ربك بمجنون)) (سورة القلم) راسماً النون بالشكل وليس بالصوت، وإذن فقد شبه الله احتضانه لنبيه بهذا الحرف بالذات، بما يعبر عنه من حنان ودفء، ورغبة في العودة إلى الأصل… وهكذا نجد معظم الحروف ذات الانحناء، ـوهي هنا كل الحروف العربيــة تقريباً-، تحـاول ضم أحاسيسنا أو استدعائها، حيث نقوم بملأ الفراغات التي تتركها لنا، عن طريق الانحناء، برغباتنا وعواطفنا وهواجسنا، متيحة لنا، التعبير عن ذلك بصورة فنية، ولو نتأمل الحروف العربية أكثر، فسنجد أنها توفر مساحة لا بأس بها من هذه الفراغات الدالة على هذه القيمة الكبيرة في التواصل، فكل الحروف تقريباً، كالهاء والقاف، والميم، والحاء والراء والواو، تترك لنا فراغاً، سواء كان مغلقاً أو مفتوحاً، وسواء كان فراغاً واحداً أم متعدداً، بما يتيح الشعور بالتنوع أيضاً.
إن الخاصية الأخرى للحرف العربي، هي الميلان أثناء الكتابة، والذي يحمل قيمة صوفية، تتجلى في الثقافة العربية كلها، كالرقص الصوفي، والميلان الروحي، الذي نجد له مثيلاً في الحركة الطبيعية، كانحناء الأشجار والأنهار، و تموجات الرمل الأساسية، والتي ربما كان لها أكبر الأثر في تشكيل هذا الميلان، بما يرينا أن الحرف العربي، ليس وليد الصراع أو الانقلاب، وإنما وليد التواصل الطبيعي، واستلهامه حضارياً، حيث يواصل الخط الطبيعي، ميلانه بكل حرية (لأن الميلان ميزة أساسية في الخلق الكوني) فلا يجد ثقافياً واجتماعياً ما يؤدي إلى تحريف هذه الطبيعية، أو يضغط عليها ليقولبها في أطر ثقافية جامدة، وحتى الخط الكوفي الذي يعتمد على وضع الحدود الهندسية للحرف، لم يسمح بقيام مثل هذه الرؤية فيه، بل إن هندسته قامت أساسا على الميلان وتوظيفه بنفس القدر مع التحديد، وهذا يعطينا فكرة عن المرونة التي يتميز بها الخط العربي، والحرية التي يتيحها لاستيعاب متضمنات الطبيعة، وإدماجها في الأنساق الاجتماعية والثقافية.
إن الميلان معبر أيضا عن الإحساس بالحرية في الفضاء اللامتناهي، الحامل لقيم دافئة لا وجود للسقوط أو للاصطدام الحاد فيها، وإنما للقدرة الفائقة على التكيف والتناغم مع الآخر، وعدم الصراع معه، وهو ما يقوم به الخط العربي بصورة معجزة حقاً، وهذا ما لا نجده في الخط اللاتيني مثلاً، حيث تمثل الزاوية الحادة بعداً أساسيا فيه، بما ينبئ عن قيم مختلفة تماماً، كالصراع والصدام والبرودة والانقطاع، وبهذا يمكن للخط العربي أن يلعب دوراً كبيراً حتى في مجال بعيد عنه، وهو مجال العلاج النفسي للتوترات والأمراض النفسية، نظراً لقيم الدفء والتواصل التي يحملها، وذلك بممارسة ما يمكن تسميته بالخط الروحي الذي يتيح الشعور بالحرية والانتماء إلى الكون، وليس الانقطاع الذي يتسبب في غالب الأمراض النفسية (يهدف العلاج النفسي إلى إعادة التناغم إلى الشخصية مع بيئتها ومحيطها الذي انفصلت عنه، والذي يتجلى في كثير من الأمراض التي يمثل فيها الانقطاع عاملا أساسيا، والخط العربي له إمكانيات كبيرة في تحقيق هذا الهدف).
إن هذه الخصائص التي يحملها الخط العربي، هي التي تجعلنا منبهرين ومعلقين روحياً بلوحة لخطاط مقتدر، استطاع أن يدمج فيها سائر العناصر الثقافية والأخلاقية والفلسفية. حتى مع صعوبة قراءة ما استطاع تشكيله، إذ أن لغة الأحاسيس لا تحتاج كثيراً إلي لغة العقل أو المنطق كي يساعدها في عملية التواصل مع الثقافة.
الارتباطية والتواصلية في الخط العربي:
لقد عرفنا حتى الآن كيف نقرأ حرفاً وحيداً، قائما بذاته، إلا أن وجود الحرف في كيانات أخرى مثله، يحتم علينا أن نعرف كيف تتواصل الحروف فيما بينها لتشكل كلمة، وتأمل الحروف، ينبئنا عن الارتباط الوثيق الذي تكنه الحروف لبعضها البعض، فكل حرف يعدل من خصائصه وشكله في عملية الارتباط هذه، فحرف اللام هو حرف الألف زائدا الحضن النوني الذي يعبر كما قلنا عن الضم، إلا أن ارتباط اللام بالأحرف الأخرى، يجعله يسحب حضنه هذا ويعدله بما يتماشى مع رغبة الحرف التالي، وكأنه قد وجد رفيقه الذي أرضى تلك الرغبة في الضم، فسحب ما يعبر عنها بما حقق التواصل والارتباط. وكأنه فرح بلقائه، كذلك نجد اللام في وسط الكلمة تمد يديها إلى الحرفين الموجودين على جنبيها، حتى تحقق الارتباط، ونفس الشيء يمكن قوله بالنسبة لكل الحروف، حيث تقوم بتعديل كياناتها دون تحريف، وهذا بغرض الارتباط بالأحرف الأخرى، بما يزيد من الجمالية والروعة والتناسق. فلو نتأمل كيف يعدل الهاء وجوده في نهاية الكلمة، فسننبهر بما يفعله، خاصة حين يقوم بإغلاق نفسه، في عملية أشبه ما تكون بالخلود إلى النوم، ضاما ذاته إلى الوراء، وكأنه كائن حي، يحس ويشعر.
وهذا بالطبع له ميزة ثقافية تتجلى أكثر في الارتباط الوثيق بين المجتمعات العربية، فهي كيانات متآلفة، لا تستطيع الحيــاة بصورة فرديــة، كما لدى المجتمعات الغربيـــة، فهي متآلفة، لا تستطيع الحياة بصورة فردية، كما لدى المجتمعات الغربية، حيث نجد الخط قائماً كأحرف فردية، لا تعدل من خصائصها إذا ما ارتبطت مع غيرها، كما أن ارتباط الحروف العربية وتعديل نفسها في عملية الارتباط يخبرنا عن شكل العلاقات الاجتماعية السائدة، فهي علاقات مرنة، تنجذب إلى بعضها البعض، وتتوحد في أشكال كثيرة، كالصلاة والحج والسوق والحلقة الدينية في المسجد، والتي لا وجود للفرد الواحد فيها، بل للجماعة التي تشكل مفهوماً شاسعاً في الثقافة العربية، ومن هنا نشأت الكلمة العربية كتعبير عن هذه الجماعية، التي تصبح كياناً قائماً بذاته، ليس من خلال الفراغ الذي يفصلها عن الكلمات الأخرى كما في اللغة اللاتينية، وإنما من خلال الارتباط الخطي والمباشر فيها.
التناسقية:
يتميز الخط العربي بالتناسق الشديد بين أحرفه وكلماته، حتى في ظل كونه لوحة فنية، فالمسافات فيه محددة، والفراغات متناغمة أشد التناغم مع الامتلاء، والأسود متوائم مع الأبيض، وأهمية التناسق هنا، تكمن في قدرتها على إضفاء طابع أخلاقي ملزم على الحرف، حيث يصعب أن نتقبل تشويهاً يتم في حرف أو لوحة، إذ أن التشويه يعبر عن الشر والفساد وما هو مدنس في عرف المجتمع، وبالتالي فإن المجتمعات العربية والإسلامية أمكنها أن تعبر عن هذه المثالية من خلال الخط، وقراءة الخط من جديد تمكننا من التعرف على القيم الأخلاقية وأهمية المحافظة عليها، والتي كانت سائدة أثناء نشوء الخط كفن وكحامل لقيم الثقافة، والتي اختفت الآن أو كادت تختفي من حياتنا الثقافية، رغم أنها بقيت في فن كالخط.
لقد طور المجتمع العربي والإسلامي ذاته في فترة اتسمت بالعطاء الكبير والمتنوع، وقد انعكس ذلك على فن كالخط، حيث حمل خصائص الثقافة والحضارة وبقي محافظاً عليها مدة طويلة، ونحن إذ نمارس الخط بعد أربعة عشر قرناً، لا بد أن نتناغم معه فكرياً ووجدانياً، مستلهمين تلك الخصائص السابقة، والتي لا تزال موجودة رغم التطور الكبير الذي لفها، فألقى بغبار الزمن والتخلف عليها، ولكنه لم يشوهها.
من موقع ضفاف الإبداع http://www.difaf.com