يرى المتتبع لتطور الخط العربي اهتمام الكتاب به باعتباره الوسيلة التي كتبت بها آيات القرآن الكريم، وبرزت أهمية تجويد الكتابة والعناية بها لقدسيتها ومكانتها العظيمة عند العرب والمسلمين.
ولقد تابع المهتمون بموضوع تطور الخط العربي في العصور الإسلامية، وهم يؤكدون حقيقة أصالة الكتابة العربية، وهي تتطور وفق المراحل التي حددت فيها أساليب الكتابة. والخط العربي ـ كما قال ابن خلدون في مقدمته ـ (كان الخط غير بالغ إلى الغاية من الإحكام والإتقان والإجادة، ولما فتح العرب الأمصار، وملكوا الممالك، ونزلوا البصرة والكوفة، واحتاجت الدولة إلى الكتابة، استعملوا الخط، وطلبوا صناعته وتعلّمه، وتداولوه، فارتقت الإجادة فيه، واستحكم، وبلغ في البصرة والكوفة رتبة من الإتقان، إلا أنها كانت دون الغاية ثم انتشر العرب في الأقطار والممالك، وافتتحوا أفريقية والأندلس). لقد انتشرت الكتابة بعد ظهور الإسلام، وبخاصة في المدن والحواضر العلمية.
والخط العربي هو رمز حضاري وجدناه يعظم بعظم الأمة ويتمركز في أكبر مدنها وعواصمها، فوجدناه في الكوفة أيام خلافة الإمام علي بن أبي طالب “كرم الله وجهه”، وتمركز في دمشق عندما عظمت دولة الأمويين، وانتقل إلى بغداد وازدهر فيها أيام العباسيين.
وتبوأ الخط منزلة متميزة في التراث الحضاري العربي والإسلامي إلى جانب تعبيره ودلالاته عن قيم فنية وجمالية معينة، ينقل إلينا من خلال الكلمة المجوّدة مضمونها ومعناها. وعندئذٍ يلتقي جمال الكلمة مع قدسية المعنى، وتمتزج الثقافة بالفن ويحتفظ أحدهما بالآخر ليصبحا معاً وسيلة من أعظم وأرقى وسائل المعرفة للإنسان.
وأهمية الخط العربي في الحضارة العربية والإسلامية لا يمكن أن تكون أهمية مبالغاً فيها، ذلك أن هذا الشكل من الفنّ، قد احتفظ عبر القرون بأعلى المستويات الجمالية والفنية، ومن الممكن اعتباره التراث الوحيد الذي استمر في أن يكون مطلباً للعرب والمسلمين يمارسونه في كل المناطق وفي كل العصور.
ولقد ازدهر فن الخط عبر تأريخه الطويل واستمر بالتحسين والتجويد باعتباره تعبيراً فنياً متميزاً عن العقيدة الإسلامية في تمتعه بالتقدير الخاص في المجتمع العربي المسلم، وأن أهم خاصية عامة يمكن تمييزها مباشرة في الفن الإسلامي وللمجتمع هي حبه وتقديره للخط.
ونحن نتحدث عن الخط وأهميته وفي المخطوطات بخاصة: يمكن تعريف المخطوطة بأنها: مجموعة من الأوراق المخطوطة أو المكتوبة التي تؤلف المخطوط أو ما نسميه بالكتاب. وأن عناصر المخطوط أو الكتاب الرئيسة هي: (الخط والتذهيب والتزويق والتصوير والتجليد)، وهذه العناصر بفروع الفن تسهم في إخراج المخطوط أو الكتاب الجميل. وكانت الكتب والمخطوطات العربية والإسلامية من أجمل المظاهر للفنون الجميلة في الخط والنقش والتذهيب والتلوين، وكانت المخطوطات المستحدثة التي برع المصورون العرب في تحليتها بالخطوط وأحياناً بالصورة التي تظهر معانيها، فقد انتعشت فنون صناعة الكتاب في العصور الإسلامية نتيجة اهتمام الحكام المسلمين والحاشية المحيطة بهم في عمل مصاحف جميلة لهم أو مخطوطات ثمينة نادرة، فاستعانوا من أجل ذلك بأبرع الخطاطين لكتابتها وأمهر المذهبين لزخرفتها وتزويقها.
ارتقاء الخط العربي وتطوره في بغداد
أخذ الخط العربي يشق طريقه في الارتقاء والتطور وكثر الاهتمام به، وذلك في أوائل العصر العباسي، وكان العصر الأموي بداية لتطوره وجودته، واختط بنو العباس بغداد لتكون عاصمة دولتهم ومركزاً للدولة العربية وداراً للإسلام، واستبحرت فيها العلوم والآداب، وكان الخط البغدادي معروف الرسم.
كانت بغداد عاصمة الدولة العربية والإسلامية، ومركز العلم والأدب والفن، وكانت مهوى أرباب الذوق والحس، يحرص كل واحد على زيارة بغداد، وكتب الرجال والتراجم طافحة بأسماء الأعلام في مختلف العلوم والآداب والفنون قصدوا بغداد, واغترفوا من مناهلها، وعادوا إلى بلادهم وهم متشبعون بالآراء والقواعد في الفقه واللغة والفن، وكان الخط العربي أرقى هذه الفنون.
وكانت بغداد موطن الإنبات الذي استقرت فيه معالم الحضارة وازدانت في رحابها مدارس العلم والفن، وتألقت في سمائها مصابيح المعرفة والفكر، بعد أن قصدتها مواكب الباحثين، وشدّت الرحال إليها جموع الرواد لينهلوا من معارفها ما يشبع رغبتهم، ويعينهم على استكمال مستلزمات الحياة العلمية التي نذروا لها نفوسهم.
إن أشهر مجودي الخط الجميل وكاتبيه والمتفننين الأوائل الذين تفردوا بهذا الفرع من الفنون الرفيعة قد نشؤوا في مدينة السلام، وفيها برعوا بخطوطهم وظهرت مواهبهم.
ولا نجد في حواضر العالم العربي والإسلامي مدينة أنجبت من الخطاطين البارعين الكبار كمدينة بغداد، فتاريخها حافل بالأمجاد والأعلام البارزين في الخط.
الخطوط الأصلية والموزونة والخط المنسوب
يحدثنا ابن النديم في كتابه “الفهرست” عن تسمية الأقلام الموزونة وصفة ما يكتب بكل قلم منها، مما لا يقوى عليه أحد، فمن ذلك قلم الجليل وهو أبو الأقلام كلها لا يقوى عليه أحد إلا بالتعليم الشديد، (والقلم الجليل يدق صلب الكاتب، يكتب به عن الخلفاء إلى ملوك الأرض في الطوامير الصحاح، يخرج منه قلمان: السجلان والديباج).
إن للأقلام نسباً حسابية وهي تعني عرض أفواه هذه الأقلام التي تعبر عن فخامة الخطوط المكتوبة بها دون تغيير وهي كما يأتي:
ـ عرض فم القلم في الثلثين يساوي 16 شعرة من شعر البرذون.
ـ عرض فم القلم في النصف يساوي 12 شعرة من شعر البرذون.
ـ وعرض فم القلم في الثلث يساوي 8 شعرات من شعر البرذون.
فالخطوط التي سميت في البداية بهذه الاصطلاحات وحملت نفس المميزات التي رسمت بأقلام تختلف أعراض أفواهها قد اكتسبت خصائص متباينة، وخاصة بارتباطها بالنسب المتغيرة بين ثخانة الحروف وبين طول الخطوط القائمة والأفقية في البعض منها، ومن ثم مهدت السبيل لنشوء أساليب أخرى خصصت لمجالات استخدام مختلفة، وأطلق عليها اسم “الخطوط الأصلية والموزونة” وهي الخطوط التي ابتكرها الفنانون ثم طوروها ـ معتمدين على عدة من النسب التي أوجدوها تبعاً لأذواقهم وحسهم الفني.. وقام ابن مقلة بربطها بأسس معينة، وعلى هذا أخذ الخط المنسوب مكان الخط الأصلي الموزون، وهو خط ترتبط أشكال حروفه منفصلة أو متصلة بنسب موضوعة على أسس ومقاييس هندسية مقدرة. ونسب ابن مقلة جميع الحروف إلى الألف التي اتخذها مقياساً، وإليه ينسب “الخط المنسوب” بمعنى الخط الذي تنتسب حروفه إلى بعض بنسب هندسية.
دور النساخين والوراقين في مسيرة الخط
لقد كانت للكتاب مكانة مهمة في نظم الدولة وتشكيلاتها الرسمية، وكان الخط واحداً من العناصر الأساسية التي لا غنى عنها في ثقافة هذه الطبقة. وفي الوقت الذي كان الخط الجليل يأخذ مكانه على جدران الآثار المعمارية كعنصر أساسي من عناصر زينتها، كان الكتاب في الدواوين الرفيعة يستخدمون خطوطاً طوروها في جسامات مثل الجليل والطومار والرياسي والثلثين والتوقيع بصورة خاصة.
ولما بدأت حركة التأليف والترجمة إبان عهد الأمويين تطورت معها خزائن الكتب وزاد ثراؤها، وتحولت إلى مؤسسات علمية مثل المعاهد وغيرها، ثم صارت في النهاية تنظيمات واسعة، عرفت في عهد هارون الرشيد، وعهد المأمون خاصة، باسم بيت الحكمة غالباً وخزانة الحكمة أحياناً. وظهرت عقب هذه المؤسسات مؤسسات أقيمت في المراكز الثقافية المختلفة عرفت باسم “دار العلم” ومؤسسات أخرى حملت الأسماء نفسها أو أسماء مشابهة مثل “دار الحكمة” أقامها الفاطميون في مصر في أواخر القرن الرابع الهجري. وقد وجد فن الخط مجراه في هذه المؤسسات المجهزة بالمكتبات الفنية الزاخرة بأعمال الترجمة والتأليف والنسخ مناخاً ملائماً لتطوره والمراد نموه. كما كانت الخدمة التي يقدمها الوراقون لا تقل عن خدمات الكتاب في تاريخ فن الخط، إذ كانوا جنباً إلى جنب مع كل هذه المؤسسات يغذون الحركات العلمية والأدبية.
وقد بدأت حرفة الوراقة باستنساخ الكتب بالأجرة، كما كان الوراقون يقومون إلى جانب هذا العمل الأساسي بتجارة الكتب وأدوات الكتابة.
وإن أقدم وراق معروف هو مالك بن دينار (ت 131هـ / 748 ـ 749م) وهو من الكتاب المشهورين في العصر الأموي.
وكان للمكتبات وكبار المصنفين وراقون يعملون لحسابهم، وهي حرفة كانت تفرض على صاحبها أن يكون (مليح الخط صحيح الضبط واسع العلم). فيذكر أن علماء كثيرين مثل: ابن النديم (385هـ / 995م) وأبي حيان التوحيدي (400هـ / 1009م) وياقوت الحموي (626هـ / 1229م) وغيرهم كانوا في الأصل وراقين. وقد طور هؤلاء الكتاب والوراقون نوعاً من الخط كان مخصصاً لاستنساخ الكتب في القرنين الثالث والرابع الهجريين، عرف باسم الخط الوراقي والخط المحقق أو الخط. وكان يلزم على الناسخ وهو ينسخ الكتب، وخاصة ما يتعلق منها باللغة والأدب أن يكون مجيداً للخط أولاً، وأن يراعي الدقة في قواعد الإملاء التي أشرنا إليها بإيجاز فيما سبق، وأن يكون على إحاطة تامة بأمور التدوين والتأليف والرواية في مختلف أدوارها، وخصائص مناهج التدريس التي كانت قد تشكلت في القرنين الثاني والثالث الهجريين، وكان لكل منها انعكاس واضح على صناعة الكتاب.
ونستخلص مما تقدم: أن الخط العربي في العصر العباسي قد اكتسب مكانة لائقة، لما لاقى من مناصرة ونال شهرة عالية، وكان الخط من أهم الصناعات الجميلة: ذلك لتوفر الورق في بغداد والتي تعلمت صناعته من الأسرى الصينيين، والتي تعددت أنواعه وأصبح الحصول عليه بكل سهولة ويسر، لذلك نرى المؤسسات الثقافية كان لها دور عظيم وبارز في تدوين المخطوطات ونسخ الكتب وفي مختلف أنواع المعرفة والعلوم: وقد مر بنا كيف أصبحت “بيوت الحكمة أو خزائن الكتب” ليس في بغداد أو العراق، بل انتشرت في مصر وفي رقادة بالقيروان وغيرها من الأماكن.
ولا يمكن نسيان دور الوراقين والنساخين في حركة التأليف أو محبي هذه الكتب، ولنأخذ مثلاً (الجاحظ) الذي كان يسكن دكاكين الكتب وينام فيها. إن كل ذلك يدل على الرغبة في حب للقراءة.
الموضوعات المختلفة في المخطوطات
لقد احتوت المخطوطات العربية والإسلامية على موضوعات متنوعة منذ أن بدأت حرفة الوراقة باستنساخ الكتب.
وتكمن أهمية الموضوعات التي جاءت في المخطوطات. وقد تضمنت الكثير من الجوانب الفكرية والثقافية لأئمة الفكر والثقافة العربية والإسلامية التي حملت في طيات صفحاتها العبر والحكم وما فاضت به هذه المدونات من حقائق معرفية من فقه ولغة وعلوم وطب ورياضيات وفلك وأدب، وما إلى ذلك من موضوعات متعددة في مجالات الحياة كافة.
وتظهر أهمية المخطوطات ويبرز أثرها لما حوته من أفكار وتعليقات وتصويبات وترجمات نافعة، وهذه المخطوطات وعاء علمي وتاريخي احتوى كل تراث الأمة العربية والإسلامية، وذلك من خلال كتابها وواضعيها أو مؤلفيها من علماء ومفكرين والذين وضعوا في هذه المخطوطات المناهج الرصينة التي استلهمت من القرآن الكريم والشريعة الإسلامية السمحاء، وغيرها من المعارف، وترجموا تلك القيم والمفاهيم والتعاليم الناصعة أنماطاً سلوكية تضمنت بناء الإنسان العربي والمسلم بناءً تربوياً سليماً.
ولقد كتبت هذه المخطوطات بخط انتشر في بغداد في القرون العباسية الأولى، وكان يدعى هذا الخط بالخط اللين أو المستدير، وكان مخصصاً في بداية أمره لكتابة الوثائق الرسمية وتحرير المكاتبات اللازمة في النظم الإدارية.
وشهدت بغداد حركة علمية تمثلت بإنتاج مخطوطات غاية في الروعة والبهاء، وأن موضوعاتها تعدو ولا زالت الوثائق والمراجع التي يرجع إليها الباحثون والمتخصصون والمعنيون في الرجوع لهذه الكتب الثمينة والنادرة.
المصادر والمراجع
1 ـ ابن خلدون، المقدمة، عبد الرحمن المغربي، مطبعة الكشاف ـ بيروت.
2 ـ أ) كتاب الخط العربي من خلال المخطوطات. ب) كتاب وحدة الفن الإسلامي. المملكة العربية السعوية ـ الرياض / مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية.
3 ـ أبو صالح الألفي: أ ـ الفن الإسلامي. ب ـ الموجز في تاريخ الفن.
4 ـ الدكتور محمد عبد العزيز مرزوق: أ ـ المصحف الشريف. ب ـ العراق مهد الفن الإسلامي.
5 ـ إبراهيم جمعة، قصة الكتابة العربية، مصر ـ سلسة إقرأ.
6 ـ مصطفى اغوردرمان، فن الخط، (تركيا ـ استانبول).
7- الدكتور نوري حمودي القيسي، مدرسة الخط العراقية، مقال / مجلة المورد / المجلد 15، العدد الرابع 1986.
8- محمود شكر الجبوري، بحوث ومقالات في الخط العربي، سوريا ـ دمشق، دار الشرق للطباعة والنشر 2005م
جريدة الأسبوع الأدبي العدد 1056 تاريخ 19/5/2007