لم تُعرف في التاريخ حضارة تُكرّم القلم، والحَرف الذي يُسطّره هذا القلم كما كرّمتهما حضارة الإسلام ومَدنيته، واستطاع فنّانو الخط أن يُزاوجوا بين المعنى والشكل ببراعة قلّ مثيلها، وأن يبعثوا في رسم الكلمات روحاً شفّافاً يتراءى بين الحروف لتصبح الجملة المكتوبة آية يموج فيها الجمال الحي النابض.
والكلام عن فن الخط في إطار أصالة التراث، مسألة ذات إشكالية خاصة عميقة الجذور؛ حيث إن الاستقراء الواعي للمكوّنات الحضارية لفن الخط العربي الإسلامي يدلّنا على وجود نماذج قيادية في هذا النوع من الفكر الفني الزخم، وكان لهم الفضل الكبير في تطوير هيكلية الخط نحو النماء والتطوّر.
وفي سياق الجهود المبذولة لمحاولة المواءمة بين الأصالة في الفن العربي الإسلامي كي يؤدي دوراً حاسماً في تشكيل الخصوصية الفكرية والثقافية المتميزة في هذا الفن. فإن انطلاق الفن العربي الإسلامي مع المعاصرة والتحديث يجب أن ينبع من تلك الأصالة والمحافظة على الشخصية من جانب، وأن تنفتح على الفكر الغربي في هذا المجال، لأن النهضة العلمية العربية الإسلامية المنشودة لا تتحقّق إلاّ في إطار الأصالة مع التفتّح على المعاصرة في شكلها الإنساني، والمتضمنة الجانب الإيماني بعيداً عن فنون الانحلال والتفسّخ الأخلاقي، بدرجة الربط السليم في الفن العربي الإسلامي، وهمومنا الإنسانية الحاضرة، وآمالنا المستقبلية.
فالتحديث هو قَلب تربة التراث، وغَرس بذور جديدة محلية وعالمية مبتكرة، بحيث تتحلّل العناصر الآيلة للفساد، رغم أن العناصر التي يترتب منها الخط العربي غير فاسدة، ولا يمكن أن تتحوّل في يوم من الأيام إلى شيء ثانوي، ولكن لشدة صعوبتها يلجأ بعض الخطّاطين إلى اختراع نماذج معيّنة باسم الحداثة، فتبقى أقل درجة من القواعد الأساسية المعروفة. فتنتشي البذور والجذور المنضوية في تلافيف التراث، فتنشط بفعل الضوء والمطر، وتتحرك تلك التربة في رحلة الحياة نحو النماء والاخضرار والازدهار ثم العطاء.
وفي هذه المرحلة يتدخّل الوعي البشري بالإرادة والتوجيه بالانتقاء تدخلاً يهدف في النهاية إلى تحرير طاقات التفكير والتخييل والتعبير توصلاً إلى إبداع طريف، وابتكار جديد، وخَلق جريء يتجاوز مشارف الفن إلى الإنسان بما هو فرد ومجتمع، ومشروع حضاري ينمو بذاته نحو بحر من الإبداع.
فالحداثة في الخط “تجاوز” وتوغّل في شيء جديد يتم عبرها الاستفادة من الأشكال المستحدثة، مما يجعل الخطّاط يتلذذ ببعض الحرية، بينما لا يمتلك نفس القَدر من الحرية والتجاوز فيما يختص بالالتزام، وبجوهر القواعد المنصوص عليها.
ونظراً لقابلية الحروف وطواعيتها فهي قادرة على أن تحتفظ بالجَمالية، مهما كان رسمها أو صورتها شريطة أن توفر الحرية الكاملة للحرف والاستقامة الموازية لبعض الحروف التي تشترك في الصورة والحجم.
والحداثة في الخط ليست جديدة، فقد قامت الكوفة بتحديث صورة المربعة وأبدعت فيها حتى عُرفت بها. كما ساهمت في تحديث الخط الدائري الذي استعمل في التدوين العادي، وكانت للبصرة خطّها الليّن ونافست فيه الكوفة، وانتقلت الحداثة بالخط إلى دمشق في عهد الأمويين. ونال الخط نصيباً من التحديث في شمال الشام وعرف به الخط النسخ في صورته المعروفة لنا الآن. يقول الدكتور شوقي ضيف (1910-2005) في كتابه (العصر الجاهلي) : “إن الخط العربي حدث له التطور والنمو في الحجاز نفسها. فقد كانت بها حياة تجارية مزدهرة جعلتهم يأخذون الخط المعيني أولاً، ويتطوّرون به إلى خطوطهم اللحيانية والثمودية والصفوية. ثم لما ظهرت مملكة النبط، واستخدمت الخط الآرامي، وتطوّرت به، وتفرّق أهلها بعد سقوطها في داخل الجزيرة العربية، وعلى طول طريق القوافل التجارية نشروا قلمهم النبطي إلى خطهم العربي الجديد، مستحدثين به ضروباً من التطوّر حتى أخذ شكله النهائي” أهـ.
ومعنى هذا كله أن الخط العربي نشأ وتطوّر شمالي الحجاز، وأنه لا يرجع في نشأته وتطوّره إلى بلاد العراق، فالحجاز موطنه، وهو الذي نشره في محيط العرب الشماليين على طول الدروب، والطرق التي كانت تسلكها قوافل المكّيين التجارية.
وفي الحجاز انطلقت حداثة الكتابة أو الخط العربي على مراحل وفي مراكز متعددة، وذلك في عصر النبوّة لشدة لزومها، ولتدوين الوحي أو القرآن الكريم.
إن الخط عنصر جمالي وأساسي من عناصر النمنمة الفنية، اهتم به الفنان المسلم لأنه كان بالنسبة إليه القاعدة الرئيسة لإظهار الشكل الذي ساعده في إيجاد تباين واضح مع المساحات الأخرى، المحيطة به (أي المحيطة بالشكل) خصوصاً إذا كان ذا تباين لوني ضعيف مع هذه المساحات.
كما ويُعد الخط من أهم الاختراعات الاجتماعية التي تميّز بها الإنسان فيما تميّز به عن سائر الأحياء التي تقاسمه الوجود على الأرض، فقد كان وسيلته إلى كل ما أنجزه من تراث وما أبدعه ويُبدعه من حضارة. وبها تمايزت المجتمعات البشرية، وبها تعارفت وتعاملت وتبادلت الخبرات، وإن الأمم والشعوب التاريخية المعاصرة ترجع في تكوينها أساساً إلى رابطة اللغة. ووظيفة اللغات تتعاظم يوماً بعد يوم مع التقدم البشري الحثيث.
والخط لا يُكتسب بمداومة الكتابة فحسب، بل يُكتسب أيضاً في كثرة التأمّل والاطلاع على النماذج الخطّية الجميلة، وإبراز النواحي الإبداعية في المقارنة بين اللوحات الواحدة التي اجتهد المبدعون في كتابتها وانطباعها في الذهن.
فالعين تنقل الصورة الخطية الجميلة إلى الذهن، واليد تقوم بكثرة التمرين على إخراج هذه الصورة الجميلة إلى حيّز الوجود، مثل ذلك في القول، فاللسان يعبّر عمّا في الذهن من معانٍ جميلة، ويقول الشاعر العربي:
إنَّ الكلامَ لـفي الفـؤاد وإنما جُعل اللسان على الفؤادِ دليلاً
فإذا اجتمع الإطلاع على نماذج جميلة، والرغبة، والموهبة، والاستعداد الفني، وكثرة التمرين، والجهد الشديد المستمر، والثقافة الخطية، وُجِدَ الخطّاط الحاذق الموهوب.
كما لعب الخط العربي دوراً مهماً في تحديد العناصر الزخرفية التي لم تغب عن الفن بل كانت حاضرة دائماً تملأ الأبنية والملابس والأثاث وكأنها مقصودة لذاتها. وكان الفنان يؤكد عليها عبر تحديدها بالخط، حيث إن الفنان (الخطّاط) ينطلق في غالب الأحيان من حلم، من خيال يتأمّله داخل وجدانه، وينطلق به سابحاً في واد عميق؛ إلى أن يصل به إلى الواقع.
كذلك لعب الخط دوراً هاماً في تحديد ماهية الشكل المرسوم، إذا كان طيّات ملابس، أو موجات مياه، أو تعرّجات غيوم، أو تحديد تقاسيم الوجوه، أو إظهار التشريح، أو لوحة جدارية، أو أبنية معدنية، أو زجاجية أن يُقيم عليها فنّه المتوهج والمتألق في آية كريمة، أو حديث شريف، أو حكمة خالدة، أو بيت شعر يَستظهر مكرمة خُلقية، وأن يسعى دوماً لأن يكون حقيقياً بما يحمل من أمر في نشر فضائل الإسلام فيبرز في أجمل صورة، وعلى مستوى ما كان الإسلام يؤكد الأهمية الكبرى لإشاعة القراءة والكتابة، وكأنهما من بعض متمّمات دين المسلم، فهناك من استخدم الحرف في تكرار إيقاعي عبر قيم ضوئية أو لونية فسيفسائية، ليوحي ببُعد منظوري يلوح لك وكأنه منعكس على لوح صقيل أو مرآة، وهناك من كرَّر الحرف وتدرَّج في رسم نماذجه وكأن الواحد أصبح صدى للآخر في انسجام تكاملي، وهناك من الخطّاطين من شفَّت حروف كلماته، فبدت ظلالاً متلاحقة لرؤية ثابتة تتخذ من الجمال رداءً لأجمل فنّ شهدته البسيطة ومن عليها.