مهما تغيرت الأحوال، وتبدلت الدول، وتطورت الحياة، وأملت التقنيات الحديثة فروضها علينا، فسوف تبقى هنالك تقاليد وأصول لا تبلى بمرور الزمن، بل تجد من أهلها من يحافظون على مراسمها وطقوسها، من ذلك تتابع السند في رواية القرآن الكريم بقراءاته المتواترة، كذلك الحديث الشريف وأيضاً تتابع السند في إجادة الخط العربي والسير فيه على خطى الأوائل.
وللمحافظة على هذا السند (أو ما يسمى شجرة الخطاطين أو سلسلة الخطاطين سواء أكانت بالتلقي المباشر أو غير المباشر)، يقوم الخطاطون بتقليد أعمال كبار الخطاطين والتدرب عليها حتى يصلوا إلى مستوى يطمئن به أساتذتهم أنهم تمكنوا من كتابة الخط بأقلامه (أنواعه) المختلفة، حينئذ يسمحون لهم بكتابة أسمائهم أو توقيعاتهم تحت أعمالهم، وهذا ما يسمى بالإجازة.
وحتى لا يقع خلط ينبغي أن نفرق بين الإجازة كتقليد متبع في السماح للخطاطين بالكتابة والتوقيع تحت أعمالهم، وبين الإجازة كنوع من أنواع الخط.
أما الإجازة كتقليد خطي فهي (كما في كتاب الخط العربي في الوثائق العثمانية لإدهام حنش) شهادة الأهلية العلمية والأدائية في الخط يمنحها الشيوخ أو الأساتذة الخطاطون لتلاميذهم، واشتهر زين الدين عبد الرحمن بن الصائغ بابتكارها ووضع تقاليدها التي ظلت مرعية بعده عهداً طويلاً.
وفي ذلك أيضاً يقول الأستاذ يوسف ذنون: “عندما يظهر تلميذ متميز عند الخطاط يقيم له حفلاً ويدعو الخطاطين، وبعضهم يكتب إجازته لتلاميذه، ثم يعرض أعمالهم على الخطاطين وعليها الإجازة، فتُسلم إذا لم يكن هناك اعتراض على صاحب الإجازة، أو تحجز حتى يتدرب ويستدرك ما عنده من قصور حينها تعطى له الإجازة”.
وكان مصطفى أوغور درمان قد كتب: “أن أول من وضع الإجازة هو عبد الرحمن بن الصائغ، وهذه المعلومة أخذها من كتاب تحفة الخطاطين لمستقيم زادة وهذا كلام غير صحيح، ونحن نتتبع الحقائق، ففي كتاب “لمحة المختطف في الخط الصلف” لمحمد بن حسن بن ياسين (وهو مصري) توفي سنة 780 هـ وابن الصائغ توفي 845 هـ أي قبل ابن الصائغ بما يقارب (65 سنة)، وعلق أحدهم على الكتاب وهو مجاز في الخطوط السبعة إذن فالإجازة كانت سارية قبل ابن الصائغ مكتوبة أو غير مكتوبة”.
وعن نشوء الإجازة كتقليد في دنيا الخط العربي، يقول إدهام حنش: “إذا كان انتشار الخط قد خلق لكل مركز حضاري إسلامي مدرسته الفنية الخاصة به في الخط، من خلال ما قامت عليه من أنواع الخطوط ونخب الخطاطين، وأنماط الأساليب، فإن أبرز ما ولّدته مسألة الانتشار هذه من التقاليد العلمية والفنية للخط ما يأتي:
1) نشوء أدب الخط الذي تمثل في العديد من المؤلفات العلمية والفنية والتاريخية.
2) ظهور الإجازة في الخط كتقليد علمي وفني يعتز به الخطاطون ويحافظون عليه، فهي بمنزلة الشهادة العلمية على بلوغ متعلم الخط مرتبة الإجادة المرضية لدى أستاذه، تمنحه حق كتابة اسمه الفني تحت ما يكتب من الخط والتوقيع عليه، وعلى الرغم مما أشاع بعض مؤرخي الخط العثمانيين من أن عبد الرحمن بن الصائغ، كان أول من اخترع إعطاء الإجازة لمن يستحقها، ويجيز لحائزها إجازة غيره بالكتابة والتوقيع، كانت هذه الإجازات قد عرفت قبل ابن الصائغ، إذ يشير أحد العلماء العرب في القرن الثامن الهجري إلى قدم هذه الإجازة على ابن الصائغ حتى في مصر فضلاً عن كون هذه الإجازة بلا شك امتداداً للتوقيعات عامة، والتوقيعات التدريسية خاصة، فضلاً عن الإجازات العلمية الصريحة في الحضارة الإسلامية”.
ويحرص الخطاطون من كل المستويات على الإجازة في الخط، فهي تكمل مستلزمات الشخصية العلمية، وتضفي على الشخص وجاهة إلى وجاهته، ولا يختلف في ذلك العوام مع الحكام، فقد رأينا خطوطاً لسلاطين تربو في جمالها وإتقانها على كثير من أعمال بعض خطاطي اليوم المتقنين.
في ذلك يقول كامل البابا في كتاب “روح الخط العربي”: “لقد بلغ من احترام الأتراك للخط أن بعض سلاطينهم كان يمارسه على كبار خطاطي العصر فتتلمذ السلطانان مصطفى خان الثاني وأحمد خان الثاني على الحافظ عثمان “الخطاط الشهير” كما تتلمذ السلطان محمود خان الثاني على مصطفى راقم، والسلطان عبد الحميد على الخطاط مصطفى عزت ونال منه إجازة هذا نصها: “حمداً لمن كتب اللوح والقلم، وصلاة على من هو سيد الخلق والأمم، وعلى آله ذوي العرفان والكرم وبعد. فلما استأذن مولانا دستور الأعظم والخاقان المعظم، رافع رايات العدل والإحسان وقامع الظلم والعدوان مالك الممالك الإسلامية ووارث السلطنة العثمانية، ممهد قواعد الملة الربانية مؤسس مباني الدولة السلطانية، خادم الحرمين الشريفين ألا وهو السلطان ابن السلطان عبد المجيد خان، اللهم كما أيدته لإعلاء كلمتك فأيده، وكما تورث خلده لنظم مصالح خلقك فخلده آمين، فأجزته امتثالاً لإرادته العالية سنة 1259”.
ذكرنا سابقاً رأي الأستاذ العلامة يوسف ذنون أن ابن الصائغ لم يكن أول من ابتكر الإجازة في الخط مستدلاً بكتاب “لمحة المختطف في الخط الصلف” لمحمد بن حسن بن ياسين المصري عام 780هـ أي قبل وفاة ابن الصائغ بما يقارب 65 سنة، وعلق أحدهم على الكتاب وهو مجاز في الخطوط السبعة، فكانت الإجازة موجودة مكتوبة أو غير مكتوبة قبل ابن الصائغ. وفي ذلك أيضاً كتب د. فاروق سعد في تحقيقه لكتاب “رسالة في الخط وبري القلم” لابن الصائغ المسمى أيضاً “تحفة أولي الألباب في صناعة الخط والكتاب” أن مستقيم زاده سليمان سعد الدين في كتابه “تحفة خطاطين” المنشور باللغة التركية في اسطنبول سنة 1928م ذكر أن ابن الصائغ كان أول من ابتكر إعطاء الشهادة في الخط لمن يستحقها وتسمى “الإجازة” أي الإجازة لصاحبها في تعليم غيره والتوقيع باسمه على أعماله، والواقع أنه كان من المتبع في عصر المماليك، إذا أتم الطالب دراسته لما اختاره من أنواع العلوم الشرعية على فقيه أو محدث مشهور، وأصبح هذا الطالب مؤهلاً للفتوى والتدريس أجاز له شيخه ذلك، وكتب له إجازة يذكر فيها اسم الطالب وشيخه ومذهبه وتاريخ الإجازة وغير ذلك.
وكانت قيمة هذه الإجازة تتوقف على سمعة الشيخ الذي صدرت عنه الإجازة ومكانته العلمية، وإذا كان صاحب “تحفة خطاطين” لم يورد المستند المعتمد للتسليم بما أورده لابن الصائغ فقد يكون ذلك على أساس أن ابن الصائغ تجاوز ذلك بأن جعل الإجازة لا تقتصر على اكتمال تحصيل العلوم الشرعية بل أيضاً على اكتساب المهارة في الخطاطة.
والإجازة يكتبها المعلم لتلميذه ويثبتها له بناءً على عمل فني يشهد بكفاءة وجدارة الخطاط ولها صيغ مختلفة كلها تدور حول معنى الإذن لصاحبها بكتابة اسمه تحت خطه ويسمح له بتعليم غيره مَنْح الإجازات لمن يستحقها.
وفي حوار مع الخطاط محمد أوزجاي سألته عن ظروف حصوله على إجازته فقال: “من حسن القدر أنني حصلت على إجازتي وبعض زملائي الخطاطين -في احتفال كان الأول منذ إلغاء الكتابة بالحروف العربية، وأجازني فيها ثلاثة من أساتذتي فمع وجود التأييد من أكثر من أستاذ أشعر بسعادة إلى جانب أنني أردت نيل الرضا والبركة ممن لهم فضل علي. ولم أكن وحدي الحاصل على إجازة أساتذة في وقت واحد، وعلى العمل نفسه، فقد رأيت إجازات عليها توقيعات أربعة أساتذة أو خمسة وقد يزيد الأمر على ذلك”.
إلا أن هناك أشكالاً أخرى من الإذن والسماح للخطاط بممارسة التعليم والتوقيع تحت خطوطه من ذلك ما أورده إدهام حنش في كتاب “الخط العربي في الوثائق العثمانية” حيث كتب:
“وقد ظلت هذه الإجازة أرفع تقديراً وأكثر أهمية لدى الخطاطين جميعاً ومنهم العثمانيون حتى مع ظهور “الشهادت التامة” التي أصبحت مدرسة الخطاطين تمنحها للمتخرجين فيها منذ ما بعد العام 1330هـ/1912م”.
وهناك صورة أخرى من الإجازات “التقدير”: “التقدير هي شهادة خاصة يمنحها كبار أساتذة الخط للخطاطين المتميزين في إجازة الخطوط تعادل إجازتين في الخط، ابتكرها بقية المدرسة الخطية العثمانية، وآخر عمالقة الخط العثمانيين: حامد الآمدي، عندما منحها لاثنين من كبار الخطاطين العراقيين الذين تتلمذوا عليه وهما: الخطاط هاشم البغدادي والخطاط يوسف ذنون الموصلي، وكان الخطاطون العثمانيون قد جروا قبل ذلك على منح أمثال هؤلاء الخطاطين المتميزين إجازتين كما فعل مصطفى عزت لتلميذه محمد شفيق”.
ومن طرائف الإجازات ما منحه سيد إبراهيم لطفلتين شقيقتين هما فرح وجنة عدنان ابنتا المهندس عدنان أحمد عزت الموصلي حيث جاء عنهما في كتاب “يوسف ذنون: مدرسة الإبداع الفني”.
“… وأكثر والدهما السفر إلى تركيا، وتردد لعدة سنوات على المرحوم حامد الآمدي حتى أجازهما في الخط العربي، ثم ذهب بهما إلى القاهرة حيث عرضهما على الخطاط المصري المشهور سيد إبراهيم فأُعجب بهما وهو يرى أمامه طفلتين قد قطعتا شوطاً في تعلم الخطوط، كانت جنة تجيد الثلث وفرح تجيد النسخ، وبقيتا في مصر خمسة عشر يوماً مع والدهما وفي خلال هذه الأيام منح سيد إبراهيم هاتين الطفلتين إجازة في الخط العربي بحضور جماعة من الخطاطين”. وفي حوار مع سيد إبراهيم سئل عمن يتذكر من تلاميذه فقال:
“أتذكر طفلتين أحضرهما والدهما من العراق لعرض أعمالهما، وهما فرح وجنة عدنان وقد أعجبت بهما إعجاباً منقطع النظير بموهبتيهما وجديتهما ومقدرتهما في تعلم فنون الخط العربي فمنحتهما إجازة في الخط… وأنا أعتقد أن الموصل هي مدينة الموهوبين، ويزيد من تأكيد هذا الكلام ظهور فرح وجنة عدنان أحمد عزت في مجال الخط العربي”.
وتختلف الأعمال المجاز عليها الخطاط، فقد تكون نصاً قرآنياً، أو حديثاً شريفاً، وقد كتب الخطاط حسين أمين حلية شريفة نال عليها إجازة من أستاذه محمد عبد القادر تحتوي كالعادة على النسخ والثلث، وهما في الغالب اللذان تؤخذ بهما الإجازة.