الخط العربي يمثل هويتنا العربية والإسلامية، وهو إرثنا الثقافي والحضاري التاريخي الذي نعتز به بين الأمم، فقد نشأ نشأة عادية وبسيطة، ثم تطور مع تطور الحياة، كان في بداياته وسيلة للعلم ثم أصبح مظهراً من مظاهر الجمال والجاذبية، فيستوقف الناظر، ويثير الدهشة والإعجاب، وذلك بعد أن وضعت له الطرق والأساليب الابتكارية التي أضافت جمالية جديدة إليه، فقد حرص الخطاط المسلم على تعلم الخط واجادته وتجويده باعتباره أحد الأدوات المهمة لكتابة آيات القرآن الكريم، والأحاديث النبوية الشريفة، أو الحكمة البالغة، فيزيد جمالها جمالاً بروعة خطه، وعصارة ابداعه، ومن المعروف أن بدايات فن الخط العربي كانت كتابات تبليغية، ولكن لم يكد يمر قرنان من الزمان على تلك البداية حتى ظهر الوجه الآخر من الكتابة، وهو الوجه الجميل ذو الوزن والنسبة، والذي عرف فيما بعد بفن الخط العربي … عندها افترق عن الكتابة الوظيفية، حيث مضى كل منهما في مساره.
فالكتابة استمرت في أداء وظيفتها التدوينية، والخط دخل الدائرة الفنية، رغم التداخلات والتقاطعات بينهما أحياناً، إلا أن كثيراً من الخطاطين قد اختلط عليهم الأمر فكرياً وعملياً، فجاءت الأعمال الخطية بعيدة عن المفاهيم الفنية، وبالرغم من ذلك بقى فن الخط حياً، وصمد طوال القرون العديدة وظلت الأعمال الخطية تنتج بشكل متوارث. وغالباً ما يلح سؤال: ما هو السر وراء جمالية هذا الفن؟ وعما إذا كان بإمكان العقلية العربية المعاصرة الارتقاء بالخط إلى ما هو أجمل؟ وللإجابة على هذه التساؤلات، لابد من التعرف على الأساسيات التي تدخل في صميم هذه الجمالية؛ وخاصة تلك التي هي من طبيعة الخطوط العربية، أو ناتجة عن عقلية الخطاط المسلم والعربي، أو نابعة من وجدان وروح البيئة التي عاشها، ومعرفة هذه الأساسيات توضح لنا الجوانب الجمالية في هذا الفن، وأهمها مفردات وأشكال الخطوط العربية، المرونة والمطاوعة، المقياس والنسب، الامتزاج الفني والروحي في الخط، وقابلية الخطوط العربية على التشكيل والتوثيق والتدوين … كما أن هناك جمالاً معنوياً مضافاً يدركه المرء ببصيرته قبل البصر، وهذا الجمال المعنوي هو فوق القواعد الخطية، تلك هي روح الجمال، أو بعبارة أخرى عبقرية الجمال.
لقد أدرك الفنان المسلم ما للجمال من وقع في النفوس، فسخر أقلامه لتزيين الآيات الكريمة، فأطرب العيون بروعة فنه وإبداعاته، وجعل من الحروف العربية لوحة فنية يقف أمامها المشاهد مبهوتاً يفكر في دقة الكتابة، وعبقرية الخطاط المبدع الذي يستحق الإنحناء والتكريم تقديراً لما يقدمه.
وقد اختلف كثير من الباحثين، مثل: “القلقشندي، ابن حيان التوحيدي، وغيرهم..” في أصل الخط العربي، إلا أن أكثرهم يرجح أنه من أصول سريانية “آرامية” منحدرة عن طريق الأنباط “وهم من القبائل العربية” أي أن أصله هو الكتابة النبطية، وإذا تجولنا في صفحات التاريخ نجد أن الخط العربي بدأ قبل الإسلام، وقد بدأ كفن … لأن النقوش التي وصلتنا مما قبل الإسلام، مثل نقش (حران اللجة) المؤرخ سنة 568م، ونقش (زبد) المؤرخ سنة 511م، هي عبارة عن خطوط كوفية أو كما سميت فيما بعد. وكانوا يطلقون عليه (الجزم) والجزم لها معاني متعددة، ومن جملة معانيها أنه تسوية الحروف، أي تنظيم الحروف بشكل معين، وقد أطلق العرب فيما بعد على هذا النوع من الخط بشكل عام (الخطوط الموزونة) أي قائمة على وزن أو مقدار، فبدأ الخط – من الأصل- قبل الإسلام بشكل فني استفاد بهذه الخاصية من خطوط سابقة، وعلى الأخص في جنوب الجزيرة العربية (الخط المسند)، والخط المسند هو خط هندسي ومنظم، ولا يوجد خط يضاهيه في الخطوط القديمة إطلاقاً، فهو قائم على الهندسة، وفيه أيضاً إضافات تسمى تحليات … والتحلية هي “الإضافة الفنية”.
إذن فالخط العربي بدأ لما بدأ… في مكة المكرمة، وحينما أنزل القرآن على الرسول – صلى الله عليه وسلم- استقدم كتَّاب مكة ليدونوا القرآن الكريم، فدونوه على خط (الجزم)/ وأطلق عليه المتأخرون اسم (الخط المكي). وذكر ابن سعد: أن أهل مكة يكتبون، وأهل المدينة لا يكتبون، ولذلك كانت أول مدرسة للكتابة في الإسلام هي بعد معركة بدر لما طُلب من الأسرى الفداء، فالذين لا يستطيعون الفداء طُلب منهم أن يُعلموا عشر صبيان من صبيان المدينة المنورة فانتشرت الكتابة، ولكن على أي أساس انتشرت؟
انتشرت على هذا الخط الموزون المُسوَّي، وكانت هذه الكتابة هي كتابة المصاحف الأولى التي تمت في عهد عثمان بن عفان –رضي الله عنه- وهذه المصاحف هي التي أرسلها إلى الأمصار، والكوفة، والبصرة، والشام، والمدينة وفي مكة، فصارت هي القدوة في الكتابة.
إذن الكتابة بدأت ونشأت كفن قبل الإسلام، وجاء الإسلام ليؤكد هذا الفن … ويُذكر، حينما اختار عثمان بن عفان -رضي الله عنه- اللجنة لكتابة مصاحف الأمصار، جعل على رأسها زيد بن ثابت، لماذا؟ لأن هذا الرجل كان أكتب هؤلاء الكُتَّاب، ومن أشهر أقوال زيد بن ثابت في هذا الأمر: “فتتبعت القرآن أنسخه من الصحف، والعسب، واللخاف، وصدور الرجال، فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي من ذلك”.
وكان زيد يمتلك من القدرات الفنية والذكاء بحيث حينما كلفه الرسول – صلى الله عليه وسلم- أن يتعلم العبرية تعلمها في خمسة عشر يوماً. ومنذ ذلك الوقت كانت هذه الكتابة، وليس أدل على ذلك حينما عُمِّر المسجد النبوي من قبل عثمان بن عفان – رضي الله عنه – وضعت فيه كتابة في المسجد النبوي في جدار القبلة، فهذه الكتابة هي أساس الكتابة الفنية التي فيما بعد تطورت، وصارت منها أنواع الخطوط.
كما أن هناك نماذج أخرى، مثل الكتابات في قبة الصخرة، حيث كُتبت بالفسيفساء، وحينما يُنظر لهذه الكتابة نجد خط متكامل بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، جميع الجوانب الفنية التي تقتضيها المساحة، وتوزيع الكتابة على المساحة وبانتظام شديد، وقد سمي هذا الخط (الجليل الشامي) ويعتبر نقطة انطلاق تطور الخط العربي، فمنذ أن بدأ الخط العربي بدأ بفكرتين: الفكرة الاعتيادية “الكتابة الاعتيادية” وقد كانت سريعة، وكتابة مُعتنى بها ومدقَّق فيها. حتى سُميت فيما بعد خطوط المصاحف (الخط المحقَّق) أو (خط المصاحف).
إذن منذ أن بدأ الخط، بدأ في مسارين: مسار فني، ومسار اعتيادي … المسار الفني: مبعثه هو إيمان كاتب القرآن بقدسية ما يكتب، فهو يتعبد في رسمه للحرف … أما المسار الاعتيادي: ما كان يُكتب في الأمور اليومية، على سبيل المثال: في الدواوين، في المكاتبات، في المراسلات، في العقود. وهذه الانطلاقة الاعتيادية شكلت شكلاً جديداً، وولدت انطلاقة فنية حتى وازت الانطلاقة الفنية الموجودة في الخط المحقَّق أو خط المصاحف، وهي التي تم نقلها إلى العمارة، فصار منه ما يُسمَّى بالخط الكوفي، حيث بدأ هذا النوع بسيطاً، كما نجده في قبة الصخرة، ثم بعد ذلك صار منه “الكوفي المروس” الذي فيه رأس، وهذا نجده في سامرَّاء، ونجده الآن في معظم مساجد اليمن، أو آثار اليمن التي هي من القرن الأول والثاني والثالث الهجري، ونجده أيضاً في الأندلس، والقيروان.
وعندما ندقق النظر في التحليل الفني للخط العربي في المخطوطات، نجد أنه يظهر لنا بجلاء أن تجويد رسم الحرف قد حافظ على نوعيته، وليس هذا فحسب، بل أن كل الآثار الكتابية على المعمار، والمشغولات، والمسكوكات، والمحفورات، وغيرها من المنتج الإسلامي تحلت بقيم عالية في التصميم الخطي، وهو ما يدلل على شيوع الخبرة الفنية، واتساق روح الجماعة في التصدي للعمل الفني. وعندما نشاهد المخطوطات القديمة نجد جمالية فنية غير مكتشفة في كثير منها، فهي تعد آثاراً متحفية عالية القيمة الفنية من حيث دقة الرسم، وحسن الإيقاع، والتنسيق … ولكن على النقيض عندما نشاهد أعمال الخطاط المعاصر نجد ضعف في القدرات، وافتقاد تنسيق وأحكام، وايقاع الحروف … فما السبب في ذلك؟
ربما أو من المؤكد أن الخطاط المعاصر يفتقر إلى كثير من الظروف الحياتية المساعدة التي عاشها سلفه، والتي تمكن بها من إنتاج المحكم من الخطوط والمخطوطات، فقد انصرف الناس منذ القدم إلى تعلم هذا الفن ودراسته، معتمدين بذلك على استعداداتهم الفطرية ومواهبهم الطبيعية، فبرز فيه أناس قديرون كشفوا كنوزه الفنية، وأوضحوا مقاييسه ونسبه، فكثر بذلك الخطاطون الذين مارسوا هذا الفن، ولكن في الوقت المعاصر حدثت تحولات كبيرة في شكل الحياة في المجتمع العربي، من مجتمع صغير كامل الاعتماد على المخطوط إلى مجتمع كبير يعتمد المطبوع بشكل أساسي … وانحسرت فيه تقاليد الخط العربي الأصيل، وعليه أصبح هناك ضعفاً فنياً في مستوى الخط، لأننا لا نأتي بجديد، وأن الإشارة إلى هذا الضعف تمت، وتتم بشكل منتظم في ملتقيات الخط، فضعف المستوى يشكل الظاهرة العامة. ولكن في المقابل يجب ألا نغفل حق العدد الكبير من الخطاطين المجودين المبدعين الذين بدأت نجومهم تظهر منيرة في سماء الخط العربي، وهذا حدث تقريباً في الثلاثين سنة الأخيرة حيث وُجد الكثير ممن اهتموا بهذا الفن واعتبروه الفن الأصيل لهذه الأمة، لأن الفنون الوافدة لم تحقق طموح الفنَّان، ولم تعبر عن إحساسه، لذلك بدأت أعداد الخطَّاطين في ازدياد، وبدأ الخط ينتشر، وأقيمت المهرجانات والمسابقات والنشاطات والمعارض المختلفة في الخط، حتى الفنانين التشكيليين اهتموا بالخط، ووجدوا فيه مادة غنية جداً في التعبير، والتي من الممكن أن تضيف قيم جمالية عالية، ذات طابع خاص.
وهناك من بين الخطاطين من حول اللوحة التشكيلية إلى خط متميز، ولكن يوجد ذلك على نطاق محدود في الوطن العربي، وعلى نطاق غير محدود في شرق العالم الإسلامي، وخاصة في إيران، فنجد الآن الاتجاه في إيران إلى الحروفية الخطيَّة، خطاطون مبدعون يستعملون الخط والزخرفة في لوحاتهم، وينتجون لوحات تشكيلية بأعداد لا حصر لها، ولكن المادة الأساسية هي خط جيد، وزخرفة رائعة. كما ينسب إلى الإيرانيين ابتكار خط النستعليق من خطي النسخ والتعليق.
وقد أجاد الخطاطون في نقش الخطوط وزخرفتها على قطع السيراميك في شوارع المدينة على كثرتها، بحيث يرى السائر فيها أنه في متحف مفتوح للخط العربي … والواقع يقول أن أهل فارس ما يزالون يحافظون على تقاليد تعلم الخط بأدواته المعروفة كأمر ملازم لتعلم اللغة، وقد أسهم ذلك في انتشار هذه التقاليد حتى مع تبني المدنية الحديثة.
كما أن الخطاطين الأتراك ابتكروا الخطوط الهيمايونية (الديواني والجلي الديواني) وبرعوا فيها، وأدخلوه في قصور خلفائهم، وجعلوا حروفها ملتوية جميلة، وابتكروا كذلك الطغراء والسياقة، في حين أن المشرق العربي تأثر سلباً بهجمة المدنية الغربية، فضاعت التقاليد الرصينة في التعليم وفي اكتساب المعارف دون تأسيس بديل حديث لها.
وأخيراً، إن تجويد الخط مشروط بالاستعداد الفطري للمتعلم، و بإمكان كل إنسان أن يحسن خطه، ولكن ليس بإمكان كل إنسان أن يكون خطاطاً. لأن الخط يعتمد على استعداد فطري، وقدرات يدوية، وقدرة على التصور البصري والإدراك المكاني، إلى جانب حاسة الذوق، وقدرة التوافق الحركي بين اليد والعين.
فإلى جانب التدريب المنهجي الذي يمكن اكتسابه عبر التعلم، فإن الثقافة الذاتية والمثابرة عنصران مهمان في بلوغ مرتبه التجويد. وعليه فإننا نحتاج إلى تطوير منهج شامل لتعليم الخط العربي، يُركز أول ما يُركز على النظر في الخط كأثر بصري محكوم بأسس، وبمحركات تعلم قدرات الرسم. بمعنى أن يتمكن متعلم الخط من اكتساب القدرات اللازمة والضرورية للتعامل مع النموذج المحاكي حرفاً كان أم نموذجاً من الطبيعة، وهي قدرات بصرية وقدرات يدوية في الوقت نفسه.
وإذا أردنا لهذا التراث الثمين أن يحيا، فلابد من الاهتمام بمدارس تحسين الخطوط، وعمل دراسات جديدة لتطوير الخطوط العربية في قالب جديد، يساير الاتجاهات الفنية المعاصرة. وإذا أردنا أن نعرف حقيقة الخط العربي وعظمته في أعين الغربيين فلنستمع إلى “بيكاسو” رائد الرسم الحديث إذ يقول: “إن أقصى ما وصلت إليه في فن الرسم، وجدت الخط العربي قد سبقني إليه منذ أمد بعيد. “..!
جريدة القدس العربي- لندن – عدد 6817 – 13/5/2011