لم تعرف الفنون القديمة أو التي سبقت الفن الإسلامي (الفن اليوناني، والفن الروماني، والفن الساساني) الزخارف الكتابية، ولم تظهر علي منتجاتها الفنية، في حين عرفت فنونها خليط من العناصر الفنية الأخرى مثل الزخارف النباتية والحيوانية، وحتى الهندسية بأشكالها المختلفة وضروبها المتعددة، وظهرت لتزين منتجاتها الفنية وأبنيتها من كنائس ومعابد وقصور، ولكن التجربة الإبداعية الأولي لظهور الكتابة الزخرفية لم تبدأ إلا علي يد الفنان العربي المسلم، بعد انتشار الإسلام، ونشأة الفن العربي الإسلامي.
تشكل الكتابات الزخرفية
أرقي وأجمل صور الإبداع الفني التي وصل إليها الفنان المسلم في ظل النظام السياسي العربي الإسلامي، حين تحررت منطلقاته الفكرية وتفوقت سيادته الإنسانية، فاندفع منطلقاً نحو فضاءات فنية جديدة، متكئاً علي أرضية تملؤها الخصوبة الفنية، والكم المعرفي الهائل، والتلاقح الحضاري الذي كان من أهم سمات تلك المرحلة، فاتخذ من الخط وسيلة للتعبير عن موهبته الفذة، وذهنيته الصافية، مندفعاً بقوة وجرأة شديدة، مستظلاً بتلك الظروف التي هيأت له وللخط مناخاً فنياً وحرية تعبيرية واسعة، فأبدع منه مواضيع وأنماط جميلة شكلت بصمات، بارزة في سماء التراث الفني العربي والعالمي امتد تأثيرها عبر أجيال طويلة حتى عادت من جديد لتصبح عناصر فنية يستعين بها الفنانون والصناع المعاصرون كقاعدة لممارسة أعمالهم، برغم أنهم، عجزوا عن مضاهاتها.
وبرزت الكتابة العربية كظاهرة فنية وإبداعية في مرحلة النهوض الحضاري الذي عم الأقطار الإسلامية جميعها، حيث خرجت من إطار الكتابة التقليدية التي كانت تؤدي الغرض المطلوب إلى أنماط جمالية وترفيهية حالها حال اللوحة الفنية في الرسم والتصوير أو القطعة الموسيقية أو القصيدة الشعرية، وباقي النتاجات الفنية الأخرى، وأصبح الخط العربي عنصراً مهماً في تزيين جميع المصنوعات من خزف ومعادن وزجاج وأخشاب، وكذلك زينت به الأقمشة والسجاد والطنافس، إضافة إلى ما ظهر منه في تزيين الجدران والأعمدة والقباب في المساجد والقصور والمدارس من كتابات تميزت بالخطوط الزخرفية الرائعة، ومما ساعد الفنان العربي باستعمالاته المبتكرة لأنواع جديدة وجميلة من الخطوط بشكل واسع كونه قد امتاز -أي الخط العربي- عن غيره من الخطوط الأخرى، بميزات عديدة جعلت منه عنصراً سهلاً في الزخرفة لما يتمتع به من ليونة في حروفه ورؤوسها وسيقانها وأقواسها وخطوطها الرأسية والأفقية، كل ذلك أعطي للخطاط قدرة في التلاعب (بقصبته) بقلمه كما يتلاعب الموسيقي بريشته، فتارة يجعل الحروف متجمعة متعانقة، وأخري يرسمها متباعدة متناسقة، وفي مرات أخري يلجأ إلى التنويع بين الحروف القائمة والمستديرة، ليجعل منها لوحة تنتزع الإعجاب.
ومما شجع علي انتشار الزخارف الكتابية بشكلها الواسع في جميع أقطار الدولة الإسلامية، هو العامل الديني، وذلك لما تحتفظ به اللغة العربية لنفسها من مكانة مؤثرة في نفوس المسلمين، فأول كلمة نزلت علي النبي محمد (صلي الله عليه وسلم) كانت {اقرأ باسم ربك الذي خلق}، وبه أقسم الله تعالى حين قال: {ن والقلم وما يسطرون}.
من هنا تمتع الخط العربي بقدسية وهالة كبيرتين، لدرجة جعلت بعض الفرق الدينية تنسج حوله قصصاً عبر عنها “ابن خلدون” في مقدمته بقوله: “إن علماء التصوف الإسلامي كانوا ينسبون إلى الحروف العربية أسراراً خفية، كاتقاء الحسد، وطرد العين الشريرة، وشفاء للمرضي، وكانوا يدعون أنها تجلب الخير والبركة …”.
ومن الغريب أن رواسب تلك المعتقدات ما زال مأخوذ به في بعض الدول الإسلامية إلى الوقت الحاضر، وقد انعكس هذا كله علي مكانة الخط العربي ووضعوه في أعلى المراتب بين الفنون الإسلامية جميعها، ونال الخطاطون أشرف الصفات، وقد قادهم ذلك إلى أن ينشطوا في إبداع مختلف الرسوم الخطية، ويتفننوا في تصويرها علي مختلف المنتجات الفنية، وأبدعوا في كتاباتهم لبعض النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، واختيارهم أجمل العبارات الأدبية والشعرية والدعائية، إضافة إلى النصوص التاريخية، التي زينوا بها التحف والمصنوعات والنقود (المسكوكات)، ولذا فقد أصبحت الزخارف الكتابية إضافة إلى كونها تشكل عناصر فنية، تحمل مادة تاريخية مهمة لعبت دوراً كبيراً في الدراسات الأثرية، بل وأصبح بعضها مصدراً مهماً في دراسة التاريخ العربي لتلك المرحلة، وهكذا فقد كان الخطاطون يجتهدون ويتبارون في التوصل إلى أروع وأجمل الطرق الزخرفية وإضفائها علي الكتابات، تقرباً إلى الخلفاء والأمراء وكبار رجال الدولة، بعد بروز حركة التأليف والترجمة، ونسخ كتب الأدب والشعر، وظهور فن المخطوطات، الذي يعد من أبدع ما خلفه الفنان العربي من روائع فنية في التراث العربي الإسلامي، وسجلت لنا كتب التاريخ والأدب العربي بإسهاب أسماء ومفردات حياة عدد من الخطاطين المشاهير الذين أسهموا بنجاح في زخرفة خطوطهم وتطويرها، منهم “ابن مقلة” و”ياقوت الحموي” و”ابن البواب”، وهكذا بدأت تظهر بين فترة وأخرى نماذج جديدة من الكتابات الزخرفية التي استخدمها الفنانون في تنفيذ أعمالهم الفنية، كانت أجملها زخرفة هي الخطوط الكوفية:
الخطوط الكوفية الزخرفية
تعود تسمية هذا الخط إلى مدينة الكوفة العراقية التي أصبحت في خلافة الإمام “علي بن أبي طالب” (رضي الله عنه) عاصمة للعالم الإسلامي، وأخذت موقعها الحضاري والتاريخي، ومن بين ما اهتمت به الشؤون الثقافية والفنية، فكان الخطاطون والخط العربي في مقدمتها، وأدي هذا الاهتمام إلى تفجير الطاقات الفنية والإبداعية لدي الخطاطين، فشهد الخط فيها طفرة كبيرة من التلون والإبداع، فتنوعت أشكاله، وتعددت صوره، وغدت له مسحة زخرفية رائعة شكلت المحاولات الأولى لظهور الخط الكوفي الذي اقترن باسم هذه المدينة، لأنه ابتكر ونضج فيها، ولم يكن له وجود من قبل، وقد انتفع الفنان العربي من خصائص الخط الكوفي المستمد من جماله الزخرفي، وتناسب حروفه واتزانها وتناسقها وصلابتها ويبوسها، فانتفع منها أحسن انتفاع، وذلك باشتقاقه أنواع أخرى منها “الكوفي المورق”؛ ويعرف عن هذا النوع من الخط بأن الكتابة تخرج من أطراف حروفها سيقان نباتية دقيقة، وتزخرف نهاياتها ورقة نباتية تمتد إلى أبدان الحروف نفسها، مما يعطيها صفة جمالية مضافة.
وقد انتشر هذا الخط في شتى أنحاء العالم الإسلامي، وتطور من الكوفي نوع آخر وهو “المزهر”؛ ويقوم هذا الخط علي تحوير الورقة النباتية التي عرفت في الخط المورق إلى ورقتين تتألف من فصوص ثلاثية يحتضنها الغصن النباتي الذي يخرج من رؤوس ونهايات الحروف، ثم يمتد بعيداً عن مكان اتصاله بالحروف، وينثني قليلاً بعدما تنشق أوراقه لتزين بالأزهار، ويعتبر هذا الخط في نظر المختصين وعلماء الآثار العربية الإسلامية ابتكاراً من ابتكارات العرب المهمة، وإضافة جديدة للفنون المزدهرة في الحضارة العربية الإسلامية.
أما النوع الثالي من الكوفي فهو “المضفور”؛ الذي يتميز عن غيره من الخطوط الأخرى بتكون زخرفته من ترابط حروفه مع بعضها في تداخل وتشابك، كما يميل إلى التعقيد إلى حد يكاد يذهب بمعالم الكتابة بحيث تصعب قراءتها في بعض الأحيان، ولا يمكن للقارئ أن يعرف أين تبدأ الكلمة وأين تنتهي، أما النوع الأخير من أنواع الخط الكوفي هو الخط “الصوري”؛ الذي ينحو فيه الفنان منحىً جديداً وذلك من خلال الاستعانة بصور الإنسان والحيوان والنبات، ليتخذ منها أشكالاً كتابية، ويعتمد أحياناً في رسمه للحروف أجزاءً من جسم الإنسان كاليد أو الساق أو الكف أو العين أو غيرها، ويتخذ في مرات أخرى رسوم بعض الحيوانات للدلالة علي حروف معينة, ويعد هذا النوع من أهم مراحل تطور الخط العربي.
ولم يقف الفنان العربي عند هذا الحد من وسائل التعبير الصوري في فن الكتابة؛ بل حاول أن يبتكر صوراً أخرى،وما زالت المتاحف والمكتبات العربية والعالمية تحتفظ بالأعداد الكبيرة من التحف التي تزينها الخطوط الكوفية الزخرفية التي أنتجتها أنامل ذلك الفنان، كما تحتفظ الأبنية والعمائر بأجمل النماذج لاسيما المساجد والأضرحة والقصور والمدارس الأثرية في الأقطار التي كانت تحت السيطرة العربية، وهنا يؤكد الفنان العربي مرة أخري عمق تجربته الفنية، وسعة أفقه وعطائه، وتواصل إبداعه عبر الأجيال.