للقرآن الكريم أثر عظيم في نفوس المسلمين، فهو كتاب الله، أصل كل الأصول، يحفظونه ويتبركون به، يتحصنون ويتداوون بآياته، ويأخذون بأحكامه، وحرص المسلمون جميعاً على أن يكون في أجمل صورة، وأبهى حلة، وانكب الخطاطون والمجلدون والمذهبون عليه إبداعاً في إخراجه، حتى أصبح أعظم رونقاً، وأجمل شكلاً وأكثر جلالاً، وكان سبباً في تطوير وتجويد الكتابة العربية خطوطاً ونقوشاً، فصار الخط العربي أحد أهم الوحدات الزخرفية الفنية الإسلامية، ليس هذا فقط، بل امتد أثره ليشمل كل جوانب وميادين الفن الإسلامي.
كان نزول القرآن الكريم بلهجة قريش دليلاً على سيادة هذه اللهجة بين العرب، نزل وحياً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الرسول يبلغه إلى الصحابة فور نزوله، فيكتبه كتبة الوحي، ويتسابق الباقون بحفظه عن ظهر قلب، تلقاه النبي صلى الله عليه وسلم بواسطة أمين الوحي جبريل، ويسارع كتبـة الوحي بتسجيله أمامه، ومن أشهــرهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير ومعاوية وزيد بن ثابت وعامر بن فهيرة وعمرو بن العاص، وقيل إن عددهم 26 كاتباً وفي قول أخر 42.
ارتبط المصحف بعدة أمور في حياة المسلم، يمكن لنا أن نفصلها على مستويين:
أولهما مستوى روحي يتعلق بكلماته ودلالاتها، وثانيهما مادي يتعلق بصنعته من ورق وتجليد وخط وكتابة وزخرفة، وغير ذلك من الأعمال الفنية، وهنا يمكن لنا النظر في عدة أمور منها، المواد المستخدمة، الخطوط العربية، إعجام اللغة العربية، جمع نصوص القرآن الكريم والزخارف المصاحبة. ومن تلك الأمور نستطيع أن نحكم على تاريخ أمة الإسلام وخاصة في جوانب تمدنها وتحضرها وذلك للإرتباط الشديد بين المصحف الشريف وبين ما أنتجته يد السلم، وما تفتق عنه ذهنه وإبداعه أصالة وفناً.
كان للمصاحف – وما زال- اثر مهم على العمارة الإسلامية؛ فقد جاءت الزخارف على العمائر مماثلة لتلك التي على المصاحف، بدليل أن المصاحف المغربية تختلف زخارفها عن تلك التي كتبت وزخرفت في شرق العالم الإسلامي؛ ولذا فإننا نجد أن العمارة المغربية مختلفة عن مثيلتها في شرق العالم الإسلامي وبنفس درجة الاختلاف في زخرفة المصاحف.
علم “الكتابات العربية” علم حديث له صلة وثيقة بالدراسات الأثرية ، ويمكن النظر إلى الكتابات العربية الآثرية من كونها:
1) كتابات على مواد صلبة مثل الحجر والخشب والرخام وتسمى “نقوشاً”.
2) كتابات على مواد لينة مثل الرق والبردى والورق وتسمى “خطوطاً”. وعموماً فالبحوث في موضوع الكتابات قليلة، إلا أن آيات القرآن الكريم قد احتلت موقعاً متقدماً سواء في النقوش أو في الخطوط.
فالقرآن الكريم لم نجده فقط حبيس المصاحف والصناديق، ولكنه وجد مكتوباً على البيوت والمساجد وقطع الأثاث، وهناك مساجد نقش عليها القرآن كاملاً لتكون مصاحف ومساجد في آن واحد، وقد ظل القرآن عند المسلم آيات تُقرأ وتسمع ويؤخذ بمحتواها وينتهي عما تنهى عنه، وكان يقرأ في البيوت، وفي مداخل المنازل كنا نلاحظ دكة مخصصة لقارئ القرآن، حيث يأتي كل صباح ليقرأ بعض ما تيسر منه في ترتيب يومي دائم، كما أنه لا يجوز إغفال أن القرآن الكريم قد وجد مكتوباً أول الأمر على العسب والأكتاف واللخاف والأقتاب والرقاع وقطع الأديم والنسيج.
وعلى أي الأحوال فالدراسات عن الكتابات الأثرية الإسلامية على المواد الصلبة “النقوش” أصابت نجاحاً بينما الدراسات على المواد اللينة “الخطوط” لا تزال -رغم كثرتها- في بداية الطريق (تقريباً).
جمع نصوص القرآن الكريم
يوم اليمامة استشهد عدد غير قليل من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من حفظة القرآن الكريم، وقد تنبه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو وقتذاك من أبرز الوجوه في الدولة الإسلامية الفتية لهذا الأمر، وخشي ضياع القرآن الكريم بموت حفظته، فذهب إلى الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وطرح أمامه مخاوفه واقتراحاته، وانتهى الأمر باستدعاء زيد بن ثابت وتم تعيينه رئيساً للجنة طلب منها جمع القرآن الكريم، ونجح -زيد- في مهمته وحفظ ما تم تدوينه في دار أبي بكر، ثم نقل إلى دار عمر وبعد استشهاده أودع عند أم المؤمنين “حفصة بنت عمر”، وهكذا كان الجمع الأول، أو جمع أبي بكر، أو “الجمع البكري”.
عمر بن الخطاب خلال فترة خلافته تشدد مع الصحابة ومنعهم من الانتقال إلى الأمصار الإسلامية. إلا أن عثمان بن عفان كان ليناً معهم بعد استشهاد عمر، فانتقلوا إلى الأمصار، فالتف حولهم السكان وتكونت الأحزاب الإسلامية، وحدث تأثير آخر تمثل في أن بدأ المسلمون في كل ولاية يقرأون القرآن وفق رواية من نزل بينهم من الصحابة، فأهل الكوفة قرأوا عن عبد الله بن مسعود، وأهل البصرة تأثروا بقراءة أبي موسى الأشعري، وأهل دمشق قرأوا مثل قراءة المقداد بن الأسود بينما باقي أهل الشام كانت قراءتهم مثل أبي بن كعب، وحدث خلاف بين كل تلك القراءات.
تطور الأمر بعد غزو أرمينيا سنة 25هـ، إذ حدث خلاف بين أهل الشام وأهل العراق، فتلاعنوا وكفَّر بعضهم بعضاً، وأسرع حذيفة بن اليمان الأنصاري إلى المدينة المنورة حيث أطلع الخليفة عثمان على ما رأى وما سمع واستشار عثمان الصحابة، وتم الاتفاق على ضرورة جمع الناس على مصحف واحد، وأرسل عثمان إلى السيدة حفصة في طلب الصحف المحفوظة لديها، وتكونت لجنة برئاسة زيد بن ثابت ضمت في عضويتها سعيد بن العاص وعبد الله بن الزبير وعبد الرحمن بن الحارث، وقاموا بنسخ عدة نسخ سميت بمصاحف الإمام أو المصاحف العثمانية الأئمة، قيل إنها كانت أربعاً، وقيل خمس وقيل سبع وروى البعض أنها ست نسخ، أرسل منها أربع نسخ إلى أربع مدن هي البصرة والكوفة ومكة المكرمة، ونسخة إلى الشام، أما الخامسة فقد بقيت في المدينة المنورة طيبة الطيبة. والنسخة السادسة احتفظ بها عثمان لنفسه، وسمي عثمان بن عفان تبعاً لذلك باسم “جامع القرآن” ويعتبر مصحف عثمان أو المصحف الإمام من أكبر كنوز الفن الإسلامي.
الخطوط
كتبت المصاحف في بداية الأمر بخطوط مربعة ذات زوايا “الخط المكي”، إلا أنها ومنذ خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، كتبت بالخط الكوفي واستمرت المصاحف تكتب بهذا الخط طوال القرون الأربعة التالية، وكان من بين أسباب استخدام هذا الخط ما أمكن توليده من زخارف فيه، مما يعطي جلالاً لخطوط القرآن الكريم يتفق وقدسيته، ويمكن لنا التعرف على عدة أنواع من الخط الكوفي “بسيط بدون زخارف، مورق أي خط منقوش على أرضية بها زخارف نباتية، مزهر أي تخرج من حروفه فروع نباتيه بها أزهار، ومضفور أي تشتبك الألف واللام على هيئة ضفيرة”، وكانت الخطوط راسخة رصينة دلالة على رسوخ القرآن الكريم ورصانته.
تطور الأمر إلى بعض الليونة “كوفي إيراني” ارتبط في أحيان كثيرة بالخطوط في المغرب والأندلس وتولد منه الخط المغربي، وهو خط يميل إلى الليونة والتدوير وأسهل في القراءة والكتابة.
يذهب البعض إلى أن الأقلام أو الخطوط تولدت عن الخط الكوفي المربع، ولكن الحقيقة أن الخطوط التي انتهت إلى الحجاز كانت نوعين:
1) خط جاف يابس و زوايا مولد من خطوط عبرانية مستنبطة من خط آرامي مربع وقد عرفه الأنباط وكتبوا به حوادثهم.
2) خط مستدير أو لين -مقور- كان يكتب به المراسلات والأخبار اليومية، وقد وصفه ابن النديم في الفهرست “كانت الخطوط العربية أنواعاً: المدور والثلث والتئيم” ومعنى هذا أن العرب قد عرفوا الخط المستدير.
استمر الوضع كذلك بالنسبة للمصاحف وهي أول النصوص الكتابية الأثرية الإسلامية المهمة إلى أن ظهر نوع آخر من الخطوط من اختراع وابتكار الأتابكة هو الخط النسخ.
وبدأ المماليك بعد ذلك يكتبون بالخط الطوماري والطومار عبارة نصف ملف (درج) والملف أو الدرج يتكون من 20 جزءاً من البردي أو الورق يلصق بعضها ببعض في وضع أفقي ثم يلف على هيئة أسطوانة ويكتب عليه بخط النسخ الكبير والذي عرف باسم “خط الطومار”، اتفق على أنه الخط الحجازي اللين، وظهر منه الخط المحقق، أما الخط الثلث فقد أطلقت عليه هذه التسمية لأن حجمه يساوي ثلث حجم النسخ الكبير الذي كتب به على الطومار، ثم ظهر بعد ذلك الخط الريحاني الذي تطول فيه الألف واللازم مثل أعواد الريحان.
والخط النسخ يكاد يكون خط جميع المصاحف المطبوعة والمنتشرة هذه الأيام وهي في أصلها مخطوطات لكبار الخطاطين مثل: الحافظ عثمان، ومصطفى نظيف المعروف باسم قدروغلي وغيرها، وقد تبارى الخطاطون في كتابة القرآن الكريم حتى تعددت الأقلام وتنوعت الخطوط وأصبح الخط فناً متميزاً.
وعلى وجه العموم فقد ظهرت 6 أقلام في عهد الخليفة المستعصم هي ” خط النسخ -الخط المحقق- الخط الثلث- الخط الريحاني- خط التوقيع – خط الرقعة” وقد حذقها جميعاً “ياقوت الرومي” الذي عرف بالمستعصمي وقد اتخذه العثمانيون إماماً لهم في خط النسخ وأطلق عليه لقب “قبلة الكتاب” كما أن هذا اللقب قد أطلق أيضاً على الخطاط العثماني “حمد الله الأماسي” هذا ولا ننسى دور أشهر من كتبوا القرآن الكريم بالخط النسخ وعلى رأسهم “ابن مقلة” و”ابن البواب”.
الإعجام
الكتابة العربية في أول الأمر كانت بلا نقط “إعجام” ولا شكل وكانت بعض الحروف متشابهة، مثل الباء والتاء والثاء والسين والشين والصاد والضاد وغير ذلك مما هو معروف في اللغة العربية التي تتميز عن بعضها البعض بإضافة نقط فوق أو أسفل الحرف لتمييزه عن المتشابه معه، وكان العرب أقدر على كتابتها وقراءتها في شكلها المجرد من النقط بشكل صحيح، إلا أن الأمر قد اختلف بعد الفتوح الإسلامية ودخول شعوب جديدة في الإسلام واختلاط العرب بالأعاجم فقد تفشي اللحن في نطق اللغة العربية بسبب عدم تمكن هذه الشعوب من اللغة العربية وكان لا بد من وضح حد لذلك.
أولى مراحل الإعجام قام بها “أبو الأسود الدؤلي” بتكليف من “زياد بن أبيه” حيث أضاف التشكيل بالنقط إلى الحروف وبمداد لونه أحمر مخالف للون مداد الكتابة، الفتحة نقطة فوق الحرف والكسرة نقطة أسفله والضمة نقطة أمام الحرف وبين يديه، أما التنوين فكان نقطتين إحداهما فوق الأخرى.
ثانية هذه المراحل قام بها “نصر بن عاصم الليثي” و”يحيى بن يعمر العدواني” حيث تم إعجام الحروف المتشابهة بإضافة نقط من نفس لون مداد الكتابة فوق الحرف أو تحته، فمثلاً أضيفت نقطة أسفل الباء ونقطتان فوق التاء وثلاث فوق الثاء تركت السين وتميزت الشين عنها بإضافة ثلاث نقط فوقها، وهكذا.
أما المرحلة الثالثة فهي التي أتمها “الخليل بن أحمد الفراهيدي” حينما استبدل بنقط “أبي الأسود” ذات اللون الأحمر الشكل الذي نعرفه الآن: “الفتحة والكسرة والضمة والتنوين، مع استحداث الشدة والسكون والهمزة والمدة” بمداد من نفس لون الكتابة، وأصبح الإعجام بالنقط وحركات الشكل بمثابة حماية كاملة للغة العربية من اللحن والابتعاد بكلام الله عن اللبس والنطق الخاطئ أو القاصر، هذا بالإضافة إلى أن حركات الشكل استخدمت زخرفاً للخطوط نفسها مما أضفى على الكتابة البهاء والروعة فضلاً عن الجلال والوقار.
الترقيم
وحتى يمكن ختم قراءة القرآن الكريم في ثلاثين ليلة، قُسّم القرآن إلى ثلاثين جزءاً، وتولى الخطاطون كتابة كل جزء على حدة وأطلق على المجموع اسم “ربعة” وقسم الجزء إلى حزبين، والحزب إلى أربعة أقسام سمي كل قسم منه “مربعاً”. ولترقيم الآيات جمعوا كل خمس آياتمعاً، وأشاروا إلى ذلك في الهامش بلفظة “خمس” أو”خ”،وكل عشر آيات “عشر” أو “ع” ودلالة على خمس آيات وعشر آيات،وبعض المصاحف كتب حرف “هـ” يتكرر كل خمس آيات، في موضع فواصل الآيات رمزاً إلى رقم خمس في حساب الجمل، أما ترقيم نهايات الآيات فتم في وقت متأخر واستمر للآن.
الزخرفة
تزيين المصحف استمر بشكل متواصل على طول التاريخ الإسلامي، استخدمت الوحدات الهندسية والنباتية والكتابية في الزخرفة بشكل متناسق وإيقاع طروب وتكامل لوني مما يعطي للمصحف الشريف شكلاً رائعاً ووقوراً في الوقت نفسه. واتجهت الحاسة الفنية إلى مدى بعيد في زخرفة المصحف واستخدمت زخارف الأرابيسك في تجميل المصحف وتزيينه، ويطلق عليه أحياناً اسم “فن التوشيح” أو “الرقش العربي” كما استخدم بعض نقاد الفن لفظ (العَرَبسة) في وصف هذا النوع من الزخرفة.
ونلاحظ أيضاً أن هذه الزخارف التي استخدمت في تجميل المصحف قد استخدمت في تزيين وتجميل الجدران والأسقف والقباب والعقود الإسلامية، مما يؤكد أثر المصحف الشريف في تطوير الفنون الإسلامية بميادينها المختلفة.
بعض الفنانين قاموا بزخرفة المصحف جميعه، وبعضهم اكتفى بزخرفة صفحات كاملة منه مثل صفحات الفاتحة وأول سورة البقرة، وحول سور الإخلاص والفلق والناس، وأحياناً حول سور الشورى والإسراء ويس وسورة ق. وكان الحرص دائماً على تجميل بداية المصحف وآخره دلالة على أن المصحف تضمه دفتان آية في الجمال والجلال.
ناهيك عن تلك الزخارف في الهوامش مثل الزهيرات والسعيفات والنجيمات والتي تدل على مواضع انتهاء الأجزاء والأحزاب والأرباع وفي مواضع السجدات إضافة إلى تلك الفواصل الزخرفية لتحديد الآيات وأرقامها أو المستطيلات الزخرفية للفصل بين السور المتعاقبة والتي تشتمل على اسم السورة ومكان نزولها وعدد آياتها.
التجليد
حفظ المصحف وأوراقه من التناثر والعطب أمر دفع إلى تجليد المصحف وقد تبارى المجلدون في إضافة جمال فني إلى جلدة المصحف وتزيينها الأمر الذي جعل هذه الجلود لوحات فنية سواء من الداخل أو من الخارج، وقد صنعت الجلود من الرق أو الورق أو الجلد وقد مرت عملية التجليد بعدة مراحل:
1) تقصير الجلد أي إزالة اللون الطبيعي بواسطة مادة معينة هي عبارة عن طين مجبول من تراب جذور شجر البلوط.
2) تزيين الجلد أو رقشه بالأرابسك بزخارف منوعة باستخدام طلاء الذهب أو طبعه بأختام ساخنة بورق الذهب.
3) تقوية هذه الجلود بدلكها بشمع النحل العذري وهو أمر يكسبها سطحاً براقاً قوياً ناعماً.
ولذلك فالمصحف يصان في غلاف بنفس الجمال والجلال، ولبعض أغلفة المصاحف لسان لتعليم الصفحات ولحماية المصحف، كما لا ننسى أن بعض المصاحف لها صناديق مزخرفة ومزينة بقصد الحماية للمصحف بكامله ورقاً وغلافاً، وتعتبر هذه الصناديق ثروة فنية وهي الأخرى آية من الفن والجمال.
مجلة العربي مارس 1993