يعد الفن نتاجاً إبداعيًا مميزاً، حيث يعتبر لوناً من ألوان الثقافة الإنسانيّة بما تملكه من ترجمة ذاتية لجوهر الفنان وليس تعبيراً لمتطلبات حياته رغم أن بعض العلماء يعتبرون الفن ضرورة حياتية للإنسان كالماء والطعام.
كما ويعد الحرف العربي من أهم عناصر الفن التشكيلي، وقد كثرت محاولات توظيفه لمنح مزيد من الجمال والروعة للوحة الفنية، ومع بداية العصر الحديث ظهر ما يسمى بالاتجاه الحروفي في التصوير التشكيلي بأعمال فنيّة كثيرة، فاستخدمت الحروف العربية كعنصر تشكيلي جديد ومميز وأضحت مجالا خصباً يستلهم منه الفنان إبداعاته وابتكاراته ويضيف عليه لمسات فنيّة وجمالية راقية.
وتجربة الفنان طيّب العيدي تجربة فريدة ورائدة تعرفُ طريقها إلى المتلقي بكلِّ شفافية وحبكة لما تتصف به من ترابط وإتقان، فمحاولة إدخال الحرف في ذاته عمليّة توسيع لمدارك الفنان بحيث تصبح التقنية محاولة تكرار من خلال الجمع بين الحروف من جهة والمفردات التشكيليّة من جهة أخرى ومن خلال هذه المزاوجة يبرز الحرف من الناحية التقنية كشاهد من شواهد عالم اللغة.
كما ينطلق الفنّان الحروفي / طيّب العيدي / في لوحاته الرائعة إلى تمرّد الحروف والخروج عن المألوف باِنطلاقة حرّة تُهيمن عليها جماليّة المسار وحبكة التّلاقي، فهو يُكرر الحرفَ في مسارات عدّة بمتعةٍ لا تضاهى، حيث يُحلّقُ في مخاضِ التّفكير الحر نوراً باعثاً على التجديد والإبداع والدّهشة والاكتشاف والمجازفة ويمتلكُ في كل ذلك ذاتيّة القرار ومنهجيّة البحث عن مكامن الجمال في امتلاك ناصية التّحديق والمواجهة في سرد الأفق الجمالي اللامتناهي للحروفية العربية ومتسلّحاً بموهبةِ التّمرد والرّفض في القوالبِ الكلاسيكية والمتعارف عليها بتأمل تفكيري.
فالإبداعات الفنيّة التي تحلّق بعيداً عن تناسلِ الموروثات الثّابتة قادرة على مواجهة تلكَ القواعد والأساليبِ الصّرفة في رحلةٍ تختزنُ في تجاويفها ناصيةَ الرؤى وانبهارِ الموقف.
إنّها حالةٌ غنيّةٌ بوعي التّمرد المعرفي والمتوّج بسلطةِ العقل النّقدي والقادر على هزيمة المألوف والسّير في تأسيسِ نواة معرفيّةِ حُرّة مفعَمةٍ بالإبداع والخلق والتّجديدِ.
فليس هناك أيّ أهميةٍ في أن تمتلك ميّزة التّفكير من دون أن تكون حُراً فيه، حُراً في خَلْق مناخاتهِ المعرفيّة البِكر، وحُرّاً في اجتراحِ طرائقهِ التّواصليّة في عالمِ الأفكارِ والتّصورات والمفاهيم مُستقلاً عنْ سلطةِ الثّقافات الشّفاهيّة والتّلقينيّة المتوارثة، وحُرّاً في ابتكار بداياته المعرفيّة والمتحررة من الأسبقيّات الذهنيّة وحُراً في امتلاك ذاتيّة السّيطرة الإلهاميّة على التّحاور مع الأفكار والمفاهيم وحُرّاً في صناعة تجاوزاته التفكيريّة القادرة على استدعاء صورها الجميلة وانقلاباتها العفويّة في استدعاء توافقاته الفكريّةِ الحُرة.
إنَّ الإبداع الحُر والممتزج بهويّة الحرف دافعٌ حقيقي للفنان لتحقيقِ ذاتهِ التّفكيريّة، الذّات التي تُحقق إلهاماً وتدفقاً وإبداعاً.
كما إن التنوّع الهائل في تقنية استخدام الحرف أثرتْ اللوحة التشكيلية العربيّة المعاصرة بأن طرحت العديد من التأويلات الجماليّة من خلال الكمِ الهائل من الحركات الإبداعيّةِ والتجليات المنمّقة في إجادة اللوحة العربيّة المعاصرة.
فالإبداع الفنّي لدى طيّب العيدي مرهون بقدرته على التحليل والتأليف والتركيب، كما أن قدرته العقلية هي من دواعي حضوره المتألق في لوحاتهِ الرّائعة، وإن عمله الفنّي الذي يمتلكهُ هو قوام العمليّة الإبداعيّة التي تتطلّب رؤية شاملة في التّعامل مع الأشياء وامتلاك نواصيها.
فالتركيب الخطّي للفنان طيّب العيدي يُمثل وسيلةً للوصولِ إلى غاياتٍ جديدةٍ تتجاوزُ المبصر، لتغوصَ في متاهات طرائق التركيب الخطّي وممكناته اللامتناهية نحو البحث عن توازن شكلي تشكيلي متناغمٍ ومتحرك.
فمن روحِ الحرفِ وعلى اختلاف المدارس كان لشكل حرفه خصوصيّة تمرّدت بنسبٍ غير محددةٍ على أصول وقواعد تجويده المعروفة، كان ذلك مقصوداً أو غير ذلك من خلال حريّة تصرفٍ مطلقة اعتنقها الفنان الطيّب لمعالجة حرفهِ تشكيليّاً لكنْ في عُمومها لا تخلو من نسب قواعد تبدو للعامّة حقيقيّة، لكن العارفين والحاذقين بالقواعد المتعارف عليها يدركون تماماً تمرّد الفنان عنْها لكونهِ متخرجٌ من مدارسها، لكن هذا لا يعني أيضاً أنه يجهل مدى تأثره بها جماليّاً وتشكيليّاً.
فهو يمزجُ في لوحاته بين الرّسم والخط العربي الأصيل مزجاً فنياً جميلاً حيثُ يصبغُ عليهِ من روحه المتأصلة بالتراثِ وأحاسيسه المرهفة ويطبعها بكثيرٍ من المسحات الفنيّة الرائعة والتي ربطها بمنبعه وأصوله وهو القادم من ربوع جبال القعدة الشامخة بمنطقة أفلو بولاية الأغواط في الجزائر.
كما إن أعماله الفنيّة تدل على المثابرة والتّعمق في البحث في تلافيفِ الحروف ساعياً لاصطياد عصفور الإبداع الذّهبي كونه يتعايش بصدق مع انفعالاته الحروفيّة وخلاصة أفكاره النيّرة حيث يجعل الحروف تسبح في فضاء اللوحة لتشكل حلماً يسحر الوجدان.
يسافر الفنان الجزائري طيّب العيدي بالحرف إلى حبكة فوضوية منمّقة في تجاويف الكلمة عبر تراكيب متجانسة نحو لوحة تكتظ بالإيحاءات الجماليّة والدلالات اللغوية والتشكيلات التي تهدف إلى انبعاث مخزون جمالي واسع الطيف للحروفيّة العربيّة.
حيث يحوّل الحروف إلى غابة أو مزهرية أو حقول غنّاء فيها من الأشجار والأزهار ما يجعلها لوحات تسكن في شغاف القلوب بكل طواعية وانسجام.
كما إن الحركات المتمردة والخارجة عن المألوف تعطي انطباعا ذاتياً حول جوهر العلاقة المنسجمة والتّرابط الرّوحي ما بين الحرف والفنان. وبما أنَّ معظم الحروف ليست مشتتة بل لها ارتباطٌ وثيق مع حركات النقطة المتعددة في أطوار مختلفة عبر توليفات الانسجام والتآلف في حضرة اللوحة الجماليّة بأبعادها اللامتناهية، والتي تعطي للحرف العربي تياراً آخر نحو الكمال والعبور إلى الضفة الأخرى بكل حضور وقوة وإتقان.