تبادر إلى ذهني أن أتساءل: ما هي الحدود بين الفن والصنعة في فن الخط العربي؟، أو قل ماهو الفرق بين الفن كإبداع منفلت من الزمام، وبينه كقواعد صارمة يمكن تعلمها بأناة وصبر، وإعادة إنتاج الفن اعتماداً عليها، وبذلك تكون مقياساً شكلياً (طوبولوجيا)، رغم أنها قد تتحول الى عقبة قد تماثل جسامة فعل العقبات الأبستمولوجية، تعيق التطورات التحولية في إبداع الخط العربي.
قواعد الفعاليات الإبداعية
لا يمكن نفي أن كل فعالية إبداعية لابد وان تستند على جملة (قواعد)، قد تكون مهارات تقنية في استخدام المادة أو أبنية قواعدية، مثل قواعد المنظور أو علم التشريح للفنانين مثلاً، وهذه القواعد (واجبة) التعلم، باعتبارها جانباً حرفياً وتقنياً يميز الخبير عن الهاوي، فقد كان الناقد (هربرت ريد) يؤكد ما معناه، بأن الرسام (ماكس آرنست)، رغم كل ما قيل عنه من نظريات، يبقى فناناً متمكناً من الصنعة، ويمتلك تكنيكاً عالياً في التعامل مع مادته التي يشتغل بها.
إذن هنالك قواعد النمط في جانب، وهناك حرية الإبداع الذي يحاول أن ينفلت بعيداً عنها في الجانب المقابل، ومن المؤكد أن تنقسم المواقف، فهي تتراوح بين أن تكون منحازة صوب تمثـّل القواعد، بكل مدرسيتها وحرفيتها، و (الانطلاق) في الإبداع من خلالها، وبذلك يكون الإبداع والتجديد محصورا في هوامش إمكانيات تطبيق تلك القواعد، أو بالدعوة إلى اتخاذ مواقف مناهضة، والكفاح من أجل زحزحة هذه القواعد، وليس فقط استثمار هوامشها المتاحة.
في فن الخط العربي، وبشكل أدق خط النستعليق وخط الشكسته، وهي ما يُعرف “بالخطوط الفارسية”، نجد أن خط النستعليق خط ذو قواعد راسخة منذ قرون، تمثلها الخطاطون، وحسنوها بشكل بطيء ومدروس، جعلتها راسخة، يعرفها ويتناقلها الخطاطون، لكن رغم ذاك لا يمكن فهم كلمة (قواعد راسخة) بكونها أمراً مقدساً لا يمكن زحزحته، بل إن تلك القواعد ما وصلت إلى هذا الشكل لولا التطوير المستمر الذي أصابها خلال قرون من ما يسميه الخطاطون (التجويد)، بينما خط الشكسته، الخط اليدوي للكتابة بالفارسية، كما هو خط الرقعة في الكتابة اليدوية بالعربية، خط بكر ما زالت قواعده في أطوار نشوئها، وبذلك يكون هامش الإبداع فيه كبيراً قياساً لخط النستعليق، وبذلك يميل الخطاطون الخبراء إلى إبداع أعمالهم في خط النستعليق، بينما يفضل الخطاطون الشباب الاشتغال على خط الشكسته.
القصبة … النقطة
أما من ناحية استخدام الأدوات والمواد، فإن الخطاطين جميعهم يستخدمون القصبة (وهي القلم المأخوذ من القصب الصلب، الذي ينمو بشكل طبيعي في الأغوار والمستنقعات المائية العذبة) وهي الأداة التقليدية للخط العربي ومنذ قرون، أداة جوهرية في كينونة الخط العربي، فهي المدخل إلى الوحدة البنائية (الحجيرة) فيه، حيث يجري قطها (قطعها) بشكل مائل لتصنع (نقطة) بشكل معين.
والنقطة هي المقياس لأحجام الحروف واستطالاتها، فقد اعتبر الكاتب الباحث “شاكر لعيبي” في بحثه القيـّم (النقطة في الفن الإسلامي … بصفتها تعبيراً عن الكينونة الطفيفة، ملاحظات ومقاربات عن النقطة في الفن الإسلامي والنقطة لدى كاندينسكي) إن تنظيرات الخطاطين العرب فيما يتعلق بالموضوع قد انصب على (النقطة بصفتها وحدة للقياس)، أي كونها مقياساً لدقة كتابة الحروف، ومقياساً للخطوط، فجرى بدءاً من “ابن مقلة” تثبيتها كأساس لبناء الحرف، وفي خلق توازنه البصري، حيث كانت وحدة تقاس فيها تناسبات الجمالي الذي كان الحرف يعبر، بدءاً، عنه.
ويشرح الكاتب “لعيبي” (دائرة قياس الحروف) التي ابتدعها “ابن مقلة” على الشكل التالي: “كان يرسم الحافة الهندسية للحروف ثم كان يصلح أشكالها ومقاساتها على وجه التقريب بواسطة النقطة المعينية، وبواسطة حرف الألف والدائرة المعيارية، كانت الألف (المعيارية) خطاً مستقيماً عمودياً يقيس عدداً مخصوصاً من المعينات الموضوعة قمة فوق قمة، وهو عدد يختلف حسب الأسلوب من خمسة إلى سبعة. إذ أن ارتفاع الدائرة ( المعيار) كان مساوياً للألف، والجميع الألف والدائرة كانت أيضاً مستخدمة كشكل هندسي مرجعي”.
هنالك إذن دائرة أليفها هو القطر، ووفق هذا القطر سيجري بناء جميع الحروف: ستَشْغل الراء ربعاً من الدائرة، بينما الباء تساوي القطر أفقياً. . . الخ.
في مخطوطة منسوبة إلى “ابن مقلة”، يكتب شارحها في الهامش: “ربع الدائرة (هو) ست نقط وربع النقطة، وربع سبع نقطة (و) لإتمام الدائرة خمس وعشرون نقطة وسبع نقط …”.
ويضيف “شاكر لعيبي” موضحاً شكل النقطة: “هي سطح مربع يتكون نتيجة جرة قصيرة للقصبة على الورقة، طوله مساو لعرض منقار القصبة”. انها إذن (مربع صغير) منحرف قليلاً، كما يرسمها “المسعودي” نفسه.
هذا الشكل المربع يجيء نتيجة استخدام القصبة. سيتابع اختلاف وتعدد أشكال الخط في النهاية طريقة الترتيب في فضاء الورقة للنقط المرسومة والمرئية التي ليست سوى نقاط استدلال، للخطاط نفسه، أو تظهر كعنصر تزييني، يحضر من أجل، كما يقول “المسعودي”، “إعطاء قيمة للفراغ”.
ثم يخلص الى أن ما تقيسه النقطة هو (التوازن الخلاق)، حيث يتحدث “إخوان الصفا” عن النسبة الفضلى، في الفن البصري كما في الموسيقى، و تبدو هذه النسبة مستنبطة من تأمل طويل (ورياضي) في عالم الطبيعة والكون، وليست محض تخمين مجاني. حيث (يجب أن تكون كل كلمة كالصورة متناسبة الأعضاء).
أما المادة الرئيسة للخط فهي الحبر الأسود العربي التقليدي المصنوع من السخام والصمغ العربي والعفص، وقد درج الخطاطون طوال قرون على النظر الى الحبر الأسود، “وكانوا يستخدمون الحبر الأحمر أحيانا للإشارات المرافقة للخط كالنقط والحركات، وقد يقوم الخطاط في التنويع في درجة تركيز الحبر في بعض المواضع لإبراز أثر حركة القصبة على الصفحة”، وبذلك كان الحبر مادة (محايدة) يستخدمها الخطاط ليرسم أثر الخط الذي سلكته القصبة في سيرها على الورقة، بينما بدأ مركز الاهتمام يميل من القصبة باعتبارها مركز الثقل في الفعل، إلى الاهتمام بالمادة كعنصر أول في إنجاز اللوحة، فمال الخطاطون المجددون إلى استخدام أحبار متنوعة وتقنيات إضافية خارج النص الرئيسي (الخلفية و الزخارف و الخطوط المصاحبة) حتى يمكن القول أننا ندخل عصر (خطاطي المادة)، حيث تنغمس كل أجزاء اللوحة في الفعل، على عكس البنية التقليدية حيث النص والحاشية الزخرفية، ولا علاقة لنا الآن بظهور النص ضمن لوحة رسم حيث يبقى جزءاً مضافاً لها وليس جزءاً منها.
تقوم هندسة الخط على النقطة، باعتبارها مركز الإحداثيات الديكارتية فيه، فحرف النون في الخط النستعليق الفارسي، كمثال، تقوم هندسيته على أربع نقط خفية تحيط بنقطة النون من زواياها الأربع، فتشكل هذه النقط، زوايا قائمة على حواف الورقة الأربع، وبذلك تملأ تلك النقاط الخمس (نقطة ظاهرة هي نقطة النون وأربع نقط خفية، إحداثية) كأس (هلال) النون، فتحفظ توازن الحرف من أن يميد أحد جوانبه إلى جهة ما.
إن (قوالب الأشكال الحروفية) تشير إلى المفهوم الطوبولوجي (طوبولوجيا التكوين)؛ الذي يكمن وراء الظاهرة الخطية لفن الخط العربي، فالتنقيط هو خطوط الإنشاء الخفية للتكوين الطوبولوجي، يظهرها الفنان أحياناً لأسباب تعليمية أو جمالية، أو ربما للدلالة على إتقانه القواعد وبراعته في تطبيقها.
أشكال الحروف
إن أشكال الحروف هي نماذج طوبولوجية في فن الخط، نماذج محكمة منذ قرون، يتناقلها الخطاطون منذ طفولتهم، فانطبعت في مخيلتهم باعتبارها (نماذج أولى) يحرص الخطاطون على إنتاجها على مدى قرون، ويعتبرون أي خروج عليها انتهاكاً لنماذج قبلية لا يجب المساس بها.
هكذا يتحقق التحام الكاليغرافي بالهندسي، من خلال النقطة وإحداثياتها، فإحداثيات الحروف هنا هي قواعد (تشريح) الخط العربي تماماً كما يتخذ الرسامون الواقعيون، أو الأكاديميون، رأس الإنسان وحدة قياس في ضبط تناسب الجسم البشري. إن (قالب الشكل) وإحداثيات النقطة هي ما يفرق كل نوع من الخط العربي عن غيره، إنها مجموعة قوالب طوبولوجية تميز خطاً عن آخر، وان أولى مهمات تعليم الخط جعل تمييز أشكال كل حرف في كل خط أولاً ومعرفة تنقيطها ثانياً، لقد وجد الخط أولاً، فابتدعوا له تنقيطاته (موازينه)، وبعد أن وجدت التنقيطات وجد الخطاطون بمساعدتها: إن للشيء الواحد في التأليف أهمية قدر أهمية الشيء الآخر، وكل جزء مهم قدر أهمية الكل، فالكل على نفس القدر من الأهمية في بناء التكوين.
كلمة أخيرة، هي إن الهوية الشكلية للكاتب هي بحق قائمة فقط خارج ديمومة القواعد، والثوابت القواعدية وتكمن في الأسلوب الذي يعلن عن نفسه من خلف كل تلك القواعد.