تعريف الزخرفة وقواعدها:
الزخرفة، هي علم من علوم الفنون التي تبحث في فلسفة التجريد والنسب والتناسب والتكوين والفراغ والكتلة واللون والخط، وهي إما وحدات هندسية أو وحدات طبيعية (نباتية – أدمية – حيوانية) تحورت إلى أشكالها التجريدية، وتركت المجال لخيال الفنان وإحساسه وإبداعه حتى وضعت لها القواعد والأصول.
وقواعد الزخرفة، هي الطريق الذي بواسطته وبإتباعه يمكن وضع رسومات وتصميمات وموضوعات زخرفية وطبيعية وهندسية مأخوذة أو مقتبسة من الطبيعة علي أسس سليمة من الناحية الفنية والعلمية. وقبل البدء في عمل أي تصميم ما يجب علي المصمم أن يعرف ويضع أمامه دائما الخامة المستعملة والغرض من استعمالها والشكل النهائي والنسبة، لذا فان من أهم قوانين وقواعد الزخرفة: إنشاء الزخرفة، وتكوينها من الطبيعة، وهذه القوانين لا حصر لها.
أما رحلة الزخرفة، فهي رحلة تعبر عن تطور التعبير الإنساني، عن جماليات رؤية النفس البشرية للكون، وعبر عن الفنون التي تظهر هذه الجماليات في أشكالها المادية بالفنون الزخرفية (Decorative art)، ويقصد بها كل ما يزين العمائر القائمة، أو يجمل التحف المنقولة، من خزف وأقمشة وسجاجيد وخشب وعاج وزجاج ومعادن وجلود وورق.
تبدأ رحلة الزخرفة مع الإنسان، حين حرص الإنسان منذ أن كان يعيش في الكهوف، في عصور ما قبل التاريخ، على أن يزخرف جدران كهفه بالزخارف المختلفة، والألوان المتباينة، وقد ظل هذا الحرص ملازماً له عبر العصور وإن اختلفت وسائل الزخرفة. صور الإنسان في هذه العصور الحيوانات والنباتات المصورة التي توجد في البيئة التي يعيش فيها. وقد تكون بعض الحيوانات والنباتات المصورة قد عاشت في المنطقة التي عثر فيها على الصورة أو النقش الجداري ثم انقرضت، لذلك فإنه يمكن تأريخ النقش أو الصورة بحدود الفترة الزمنية التي عاشت فيها هذه الحيوانات أو النباتات.
التكوين بالنقط:
من الأساليب التي استخدامها الإنسان للزخرفة، كانت الحفر علي الحجر بواسطة حجر صغير يشذ به، غير أن علماء الآثار قدروا أن الإنسان في بداية حضارته استخدم التكوين بالنقط (Dot Painting) عن طريق عمل الخطوط الخارجية للصورة كلها بالنقط، وكان يستخدم لهذا الغرض عود نباتي أو عود من الخشب تثبت في نهايته قطعة من الفرو، تغمس في محلول المادة اللونية والماء أو مخلوط المادة اللونية ودهن الحيوانات، ويلون بها علي الحجر بعد تسويته، ولعل أبرز الأمثلة علي هذا الأسلوب رسم لحصان وجد في كهوف (كوفا لاناس) بأسبانيا.
الزخرفة باستخدام الألوان المائية:
تقدم الإنسان خطوة أخري في الفنون الزخرفية، فعندما بني أكواخه التي كان يعيش فيها، رأى أن يغطي الحجر غير المهندم، أو اللبن(Mud Brick) الذي بنى به أكواخه بطبقة من الملاط، تستر شكله القبيح. ثم رأى أن يزين هذا الملاط بصور مائية، تدل علي أنه قد عرف كيف يحضر الألوان، وكيف يستخدمها في الرسم، عرف الرسم علي الجص بـ (الفريسكو ، Frisco)هو اصطلاح ايطالي يدل علي الرسومات الجصية الرطبة والمنفذة علي الجدران أو السقوف، ويتم الرسم علي الجدران بطريقة “الفريسكو” قبل جفاف الأرضية، وهي رطبة، حتى تتسرب الألوان داخل طبقة المونة، أو بطريقة “التمبرا”، بعد أن تجف الأرضية تماماً، وجميع الألوان التي استخدمت للرسم في العصور القديمة من النوع المعدني (أكاسيد) بعد طحنها ومزجها بالغراء الحيواني أو زلال البيض، ومن الطبيعي أن تتحلل هذه المواد العضوية مع مرور الزمن مما يؤدي إلي إضعاف حيوية هذه الرسوم والتأثير علي تماسكها وبهائها، ومن أهم الرسوم الجدارية رسوم القصر في مدينة (كونوسوس، Kenssos) بجزيرة (كريت)، ورسوم قلعة (تايرنز، Tiryns) من عصر ما قبل التاريخ في اليونان، ورسوم مدينتي (هركيولانيوم، Herculaneum)، و (بومبي، Pompeii) بالقرب من (نابولي) بايطاليا، وقد دفنتا سنة (79م) نتيجة لثورة بركان (فيزوف)، بالإضافة إلي الكثير من الرسومات الجصية الجدارية التي تعود للعصور الوسطي بايطاليا. ازدهر هذا الفن لدي قدماء المصريين وبرعوا فيه، وأبدعوا من خلاله إبداعات فنية زخرفية غير مسبوقة، تشهد به بعض أثارهم التي لا تزال قائمة تتألق فيها الألوان المختلفة كما لو كانت قد صبغت منذ أيام معدودة، وليست منذ آلاف السنين، ويشهد علي ذلك مقابر وادي الملوك، ووادي الملكات بالأقصر في صعيد مصر، خاصة مقبرة (نفرتاري) جميلة الجميلات.
استخدم أيضا المسلمون عند نشأة حضارتهم هذا الفن الزخرفي، ومن أشهر نماذجه ما وجد في (قصير عمرة) ببادية الشام، وهو قصر يعود إلي العصر الأموي، شيده “الوليد بن عبد الملك” بين سنتي (712 – 715 م) وسط إحدي المزارع التي كانت تقع إلي الشرق من الأردن، فقد استعملت الألوان، الأزرق الزاهر، والبني الداكن، والأخضر الضارب إلي الزرقة، وقد اشتملت اللوحات المصورة علي بقايا جدران القصر علي مناظر صيد، ومنظر يجمع ملوك العالم في تلك الفترة، وممارسة الرياضة، فضلاً عن أشكال نباتية كزهرة اللوتس، وعناقيد العنب، والأبراج السماوية.
النار والزخرفة:
وعندما عرف الإنسان النار، واهتدي إلي عمل الطابوق أو الآجر أي اللبن المشوي في النار (Backed Bricks) واستخدمه في بناء مساكنه ومعابده، حاول أن يحدث أشكالاً هندسية بواسطة طريقة وضعه في الجدران.
الزخرفة بالتزجيج:
اهتدي الإنسان في زمن غير معروف بالضبط إلي مادة جديدة لعبت دوراً مهماً ليس في زخرفة الجدران، بل في نواح أخري كثيرة في حياة الإنسان القديم، وحياة الإنسان في العصر الحديث علي السواء هي مادة الزجاج (Glass) التي استعملها وهي سائلة في دهن الآجر أو بعبارة أخري زجج (Glazing) بها الآجر، فأكسبها مظهرًا جميلاً وألواناً رائعة، وكون من طريقة وضع هذا الآجر أشكالاً رائعة بعضها هندسي الشكل، ومنها الجدران لمعبد (الوركاء) في العراق، وبعضها ذا أشكال فنية رائعة كبوابة (عشتار)، وجدران شارع الموكب، وقاعة العرش في بابل.
الزخرفة بالفسيفساء:
ثم اهتدي الإنسان إلي طريقة جديدة هي في الحقيقة يمكن أن نعتبرها تطوراً طبيعيا للطريقة السابقة، أي طريقة استعمال الفسيفساء الخزفية. والفسيفساء (Mosaic) بصفة عامة هي نوع من الخزف يقوم على تكوين رسوم مختلفة بواسطة قطع صغيرة أو مواد مختلفة وألوان مختلفة، استعملها الرومان فزينوا بها أرضية بعض عمائرهم بأن كونوا من هذه الفصوص صوراً من حياتهم الاجتماعية، ومناظر من خرافتهم وعقائدهم الدينية. ويحتفظ المتحف اليوناني الروماني بالإسكندرية بأمثلة رائعة من الفسيفساء الرومانية، تمثل مناظر مختلفة، ثم ورث البيزنطيين هذه الطريقة من طرق الزخرفة، وتطوروا بها من حيث الصناعة، ومن حيث الاستعمال، أما من حيث الصناعة: فقد جعلوها من فصوص الزجاج المختلف الألوان، وأما من حيث الاستعمال: فقد زينوا بها الجدران بدلاَ من الأرضيات، وكونوا منها صور مستمدة من الكتاب المقدس. وتتجلي أبدع أمثلة الفسيفساء البيزنطية في: كنيسة (أيا صوفيا) في (القسطنطينية)، وكنيسة (سان مارك) في (البندقية)، وكنيسة (رافنا) في (أثينا).
وتعد فسيفساء “قبة الصخرة” (691 م)، أروع ما تبقي لنا من الفن الإسلامي من هذا النوع من الزخارف، وهي تغطي أجنحة وبواطن العقود ورقبة القبة، وتتألف هذه الفسيفساء من فصوص صغيرة، ومكعبات مختلفة الحجم تمثل خليطاً من مواد مختلفة، بعضها من الزجاج الملون وغير الملون والشفاف وغير الشفاف، ومن مكعبات من الحجر الوردي وصفائح من الصدف؛ وقد ألصقت هذه الفصوص علي طبقة من الجص، ويلاحظ أن الألوان الغالبة علي هذه الفسيفساء: الذهبي والفضي والأزرق والأخضر بدرجاته المختلفة، وكذلك اللون الأحمر والبنفسجي والأسود والأبيض.
ونري في فسيفساء “قبة الصخرة: تنوعًا كبيرًا لأشكال ورسوم نباتية، تتمثل في صور النخيل والزيتون والقصب، وقد رسمت رسماَ واقعياَ، وإلي جانبها رسومًا أخري تمثل أواني للزهور ذات أشكال مختلفة، بعضها بيضاوي، والبعض الآخر أسطواني الشكل، موضوع بداخلها أوراق، وفروع نباتية محورة عن الطبيعة.
الزخرفة باستخدام الحنايا:
ومن طرق الزخرفة التي عرفها الأقدمون طريقة عمل التجويفات أو الحنايا (Niches) في الجدران، وهذه الطريقة تخدم هدفين: هدفاً معمارياً إذ هي تخفف من ثقل البناء، وهدفاً زخرفياً إذ هي تقطع الملل الذي يحس به الناظر إلي جدران ممتدة إلي مسافة طويلة، وقد زخرفت هذه الحنايا في بعض الأحيان من الداخل بشتى الزخارف.
ومن الحنايا ابتكر الفنان المقرنص (Stalactite) في زوايا الجدران، وفي الأجزاء العالية منها استعمل بها في مرحلة متأخرة مرايا تنعكس عليها الأضواء لتعطي مناظر مبهرة.
أما عن أصل المقرنص في الفن الإسلامي، فهو الكوة التي تقام فوق الزوايا الأربع لغرفة مربعة يراد تسقيفها بالقبة، وبواسطة تلك الكوات الأربع يستطيع البناء أن يوجد سطحا يمكن للقبة أن تستقر عليه.
وهذه الطريقة ورثها العرب من الأمم السابقة، ولكنهم عدلوا في شكل تلك الكوى، فقسموها إلي كوى صغيرة متعددة وتفننوا في وضع هذه الكوى الصغيرة، وفي تنسيقها، وفي تزيينها حتى بدت قطعاً من الفن، كلما تأملت فيها غمرتك بلذة من روحية، وزادتك يقيناً بعظمة الفن الإسلامي. ولم يقف استعمال المقرنصات تحت القباب، بل اتخذوا منها وسيلة لتزيين الفتحات في أبواب ونوافذ، وتزيين العقود، والمداخل، والأركان، والزوايا، وفي كل مكان صالح لاستعمال هذا العنصر الزخرفي.
فلسفة الزخرفة:
إن الإنسان الذي خُلق في أحسن تقويم، استمد من الخالق المبدع – إلى جانب اللغة – القدرة على التعبير، من خلال الأشكال الفنية، عن الحقائق والإدراك الحدس، وقد جاء الإسلام ليذكر الناس بقوله سبحانه وتعالى: {وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون}، كما جاء الإسلام كذلك بطرق ووسائل لتطوير القدرات الفنية بين المؤمنين واستخدامها لنشر العقيدة ولتقوية دعائم الحياة بين أفراد الأمة.
إن الناحية الجمالية سواء كانت في الحياة الطبيعية كما صنعها الخالق جل وعلا، أو كانت من عمل الحرفيين المؤمنين، يمكن أن تكون حافزاً علي الذكر، وعبادة الله تعالى هذا ما يؤكد عليه القرآن الكريم والحديث الشريف. فكل آيات القرآن الكريم التي تصف في تناسق سهل ممتع، وبصورة رائعة جماليات الحياة الكاملة في الآخرة، وفضل الله وكرمه الذي أغدقه علي خلقه، تثير في قلوب الناس قوة تدفعهم إلى الاستسلام للخالق الأوحد خالق كل جمال، وما الأحاديث مثل: “إن الله جميل يحب الجمال” و”الإتقان من التقوى” إلا تشجيع لأولئك الذين من الله عليهم بموهبة فنية أن يوظفوها لخدمة عقيدتهم.
إن عمل الفنانين هو ترجمة مُثل الإسلام العليا إلى لغة جمالية، قوامها أشكال ونماذج تظهر في الإبداع المعماري، الذي يزين أماكن العبادة أو الأواني المستخدمة في المنازل.
منشأ هذا هو أن الفنانين المسلمين كانوا يجمعون في معظم الأحيان بين الصناعة والفن الجميل، وأدركوا أن هذا التلازم بين الصناعة والفن أقوي في الحضارة الإسلامية منه في الحضارات التي سبقت الإسلام.
والمسؤول عن هذا التلازم بين الصناعة والفن في الحضارة الإسلامية، عوامل ثلاثة هي:
أولاً: الهدف الأساس الذي اتجه إليه الفن الإسلامي منذ وجوده، وهو: تجميل هذه الحياة الدنيا.
ثانياً: نقابات الصناع.
ثالثا: وظيفة المحتسب أو الحسبة.
فقد تسلم المسلمون من الحضارات السابقة عليهم شتى الصناعات بعد أن استوت علي عودها من حيث التكنيك الموروث وبين الزخرفة الجميلة، فحققت السلع الإسلامية جانبي المنفعة والجمال في آن واحد.
ومن هنا لم يعرف الفنان المسلم بين ما تخرجه يديه من أبنية شاهقة، أو تصنعه من تحف صغيرة، يستوي عنده من حيث الإتقان والتجميل القصر المنيف والكوخ الحقير، والآنية المصنوعة من الذهب، والآنية المصنوعة من الطين، فكل شيء عنده ينبغي أن ينال حظه من التجميل حتى ولو لم يكن الجزء المزخرف ظاهراً للعيان.
وإذا كان الصانع نفسه هو الفنان، فقد حرص علي أن يلبس كل ما يصنعه مما غلا ثمنه أو رخص، جمالاً زخرفياً يشبع الغبطة في النفس، ويبعث في القلب الرضا والانشراح.
أما إذا كانت مهارة الصانع في الزخرفة دون مهارته في الصناعة، فإنه يعهد بما يصنعه إلى فنان يحسن الزخرفة والتجميل.
أنواع الزخارف الإسلامية:
الزخارف النباتية:
إبداع الفنان المسلم في استخدام التشكيلات النباتية، من أوراق وفروع نباتات وأزهار وثمار، في زخرفة منتجاته الفنية سواء أكانت تلك المنتجات تحفاً أو عمائر، إذ عمل الفنان علي تحوير وتجريد العناصر المستخدمة من صورتها الطبيعية، وظهرت فيها ميل الفنان المسلم إلى شغل المساحات والخوف من الفراغ، ولقد زاد استخدام تلك الزخارف منذ القرن التاسع الميلادي، وبلغت ذروتها في القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلادي.
إذا كان الفنانين المسلمين ولعوا بتقليد الخزف الصيني وزخارفه، حتى أبدعوا في هذا المجال بصورة غير مسبوقة، إلا انه في الحقبة العثمانية نرى عودة أخرى إلى الطبيعة من خلال زخرفة الأواني الخزفية، بأشجار السرو، وأزهار القرنفل والياسمينـ وزهرة اللالا، ولونوا الأواني بألوان فضلوها علي غيرها مثل: الزيتوني، والفيروزي، والأرجواني، والأحمر الطماطمي.
الزخارف الكتابية:
استخدام المسلمون الخط كعنصر زخرفي، فقد كان الخط العربي وسيلة للعلم، ثم أصبح مظهر من مظاهر الجمال يفور بالحياة، ويجري فيه السحر، ومازال ينمو ويتحسن ويتنوع ويتعدد حتى بولغ في أساليب التحويرات الجزئية في حروفه المفردة والمركبة، فاعتبروه بهذا التحوير نوعاً من الزخرفة، وبلغت أنواعه بهذه التقنيات الكمالية في العهد العباسي عن السلاجقة والأتابكة والمغول والتركستانيين نحو ثمانين نوعاً أو تزيد، وهذا بطبيعة الحال ترف فني لم تبلغه أمة من الأمم.
أثرى الخط الكوفي بأنواع عديدة العمائر والفنون الإسلامية، وكانت له السيادة حتى العصر العباسي حين بدأ الخط النسخ ومشتقاته في مزاحمته السيادة الفنية، ومن أهم صور الخط الكوفي: الكوفي البسيط الذي لا زخرف فيه، والكوفي المورق: أي المنقوش على أرضية بها زخارف نباتية، والكوفي المزهر: أي الذي تخرج من حروفه فروع نباتية بها أزهار، والكوفي المضفر: أي الذي تشتبك فيه الألف مع اللام علي هيئة ضفيرة.
أما أنواع الخطوط الأخرى كالنسخ والثلث فقد أبدع فيها الخطاط حتى صارت تمتزج كما في المعادن المملوكية بالأشكال النباتية والحيوانية، وعلنا نستطيع التوقف عند الخط الغباري، وهو صورة مصغرة من خط النسخ ولكنها في الحقيقة صورة غاية في الدقة والصغر كما يدل علي اسمها، فهو كما يفهم من هذا الاسم صغير كأنه الغبار (Dust Script)، ويكفي لتصوره أن نعرف أن بعض الخطاطين الذين أجادوا كتابته، قد نقشوا القرآن على حبة من الأرز، وبعضهم نقشه علي بيضة دجاج.
وأما الخط المثنية أو الكتابة المنعكسة أي التي تقرأ طرداً وعكساً، فهو نوع من الخط يكشف عن مهارة الخطاط وعبقريته؛ إذ هو يكتب العبارة الواحدة مرتين بحيث يمكن قراءتها من اليمين إلى اليسار ومن اليسار إلى اليمين، وهو يمزج بين حروفها بحيث يخرج من هذا المزج شكلاً زخرفيًا جميلاً.
الزخارف الهندسية:
اتجه الفنان المسلم منذ العصر الأموي إلى استخدام الزخارف الهندسية، وأبدع فيها بشكل لم نراه في أية حضارة من الحضارات، بالرغم من أن أشكالها الأساسية نابعة من الأشكال البسيطة كالمستقيمات والمربعات والمثلثات والدوائر المتماسكة والمتقاطعة والأشكال السداسية والمثمنة.
وقد كان لتلك الأشكال الهندسية المختلفة، دور مهم في الزخرفة العربية إذ أصبحت أساس الأشكال الزخرفية العربية الإسلامية.
وتتميز الزخارف الهندسية في الفن الإسلامي بطابع هندسي قوي، يتجلى لنا من خلال استخدام الفن المسلم لتكوينات الأطباق النجمية التي ازدانت بها سطوح العمائر والمصنوعات الفنية، حيث شاعت تشكيلات الزخرفة بالأطباق النجمية في مصر والشام خاصة في العصر المملوكي، وفي العراق في عهد السلاجقة، وامتد أثره إلي الطراز الفني في المغرب والأندلس، كما انتقلت النماذج النجمية إلي تركيا وامتدت لتطبع بصماتها علي الفنون الإيرانية والهندية.
ويري مؤرخي الفن أن زخرفة الأطباق النجمية، تعكس مجموعة من المعارف والمواهب، التي استلهمها الفن المسلم من القرآن الكريم وآياته كقوله تعالي: {إنه هو يبديء ويعيد} (البروج: آية 13)، وكأن الفنان المسلم يعكس عبر تلك الزخارف تصوره للنظام الهندسي الكوني البديع، وإعجابه بدقة خلقه، وجمال صنعه.
الزخارف التصويرية:
لم تكن الكائنات الحية غاية بل وسيلة تستخدم كوحدة في العمل الزخرفي؛ بل قد استلهمتها الفنون القديمة واتخذت منها الأشكال الأسطورية.
إذ تبلورت هنا شخصية الفن الإسلامية في كراهية تمثيل الكائنات الحية، ويرجع ذلك إلى الرغبة في البعد عن المظاهر الوثنية، فقد جاء الإسلام ليقضي على الوثنية ممثلة في عبادة الأشخاص والأصنام، على إن هذه الكراهية أخذت تتلاشى بالتدريج مع زيادة الوعي بحقائق العقيدة الإسلامية، وظهرت الرسوم الجدارية على كثير من الأعمال الفنية كالتحف المختلفة، وفي الرسوم الجدارية، على أنه مما يلفت النظر زخارف المصاحف والمساجد قد ظلت خالية من العناصر الآدمية والحيوانية.
اصطلح مؤرخي الفن من الأوربيين علي إطلاق اصطلاح (الأرابيسك Arabesque) على نوع معين من الزخرفة العربية التي عرف عند العرب بالتوريق سواء كانت تحمل بين طياتها زخارف نباتية أو كتابية أو حيوانية أو هندسية، إن هذه الكلمة أصدق في الدلالة علآ هذا النوع من الزخرفة الذي أبرز ما فيه هو ظاهرة النمو، والتوريق ما هو إلا نمو وتكاثر. و لا تزال كلمة التوريق (Tauriquos) مستعملة في اللغة الأسبانية حتى اليوم للدلالة علي هذه الزخرفة.
والتأمل في هذه الزخرفة يكشف لنا عن أنها تقوم أكثر ما تقوم على العناصر النباتية، مثل كرمة العنب بأغصانها الملتوية المتداخلة بعضها حول بعض بتناسق وبصورة طبيعية. وقد وجد شكل ورقة العنب في زخارف مبنى “قبة الصخرة” الشريفة في “القدس”، وفي الجامع الأموي الكبير في “دمشق”، نلمح من خلاله تحوير عن الطبيعة مع ورقة كرمة العنب، وسعف النخيل، وثمرة الرمان، وكوز الصنوبر، وأنواعاً مختلفة من الزهور حُولت كلها إلى أشكال مجردة متداخلة، هذا التجريد مقصود لذاته من غير شك، ولقد تعلم الفنان المسلم من القرآن الكريم أن هذا العالم المتغير المتطور، ما له إلى الزوال المحتوم بمن فيه وما فيه، ولا ينبغي إلا الله وحده فهو الذي لا يلحق به فناء أو زوال، فلماذا يحاول الفنان المسلم أن يخلد بفنه ما هو محكوم عليه بالفناء؟ لماذا يرسم الوحدات الزخرفية كما هي في الطبيعة ما دامت هذه الصور سوف تزول يوماً؟ لماذا لا يعبث بصورة هذه الوحدات ويعطيها خلال عبثه بها صوراً جديدة، ويكون من أجزائها رسماً يخضعه لأصول الجمال الفني؟
إن الهدف الحقيقي من الفن هو تجميل الحياة، ولكنه أخضع هذا الخيال إلى قوانين التوازن والتقابل والتماثل والإشعاع، وهي جميعاً الأسس التي يقوم عليها فن الزخرفة، فخرجت زخرفة التوريق من بين يديه رائعة، تشدنا إلى الوقوف عندها كلما وقع النظر عليها.
أثر الزخرفة الإسلامية على الفنون الغربية
إن تاريخ الزخرفة في الفن الإسلامي يعكس فلسفة التصور الإسلامي للكون، ويقدم روح التسامح الإسلامية التي استوعبت فنون الشعوب السابقة وأعادت إنتاجها وأبدعت وإضافة عليها، كما أثرت في الفنون الغربية حتى صارت هي أصل التجريد فيها، وألهمت فنانين غربيين برؤى واضحة، بل صارت الزخرفة الإسلامية هي منشأ العديد من المذاهب الفنية المعاصرة، وإن غاب أصلها مع بُعد الزمان، والتعددية المذهبية.
كانت المحاكاة أول حلقة في حلقات التأثر الأوربي بالزخرفة العربية، ثم اخذ الفنانين الأوربيين يكتشفون رويداً رويداً أساليب فنية جديدة، ويصوغون الزخارف بروح مجددة، ويلبسونها صبغة أوربية، ولكنها ظلت تشف عن مصادرها العربية.
ولعل أبرز مثل لذلك، هو نابغة عصر النهضة (ليوناردو دافنشي Leonardo Deviancy)، فقد أقبل علي دراسة الزخرفة الإسلامية إقبالاً يبرهن على مدى الأهمية التي اكتسبتها الزخرفة في ذلك العصر، وفي كراساته نماذج عديدة من زخارف “الأرابيسك”. ومثل آخر، الفنان الإيطالي (فرانشيسكو بلليجرنيو Francesco Pelligrine) الذي ألف كتاباً في أوائل القرن السادس عشر يوازن فيه بالرسم بين الزخرفة الإيطالية والزخارف العربية، ويبرز فيه الأهمية التي كانت تحظى بها هذه الزخارف في الأوساط الفنية، وانتشرت بعد ذلك مراجع النماذج الزخرفية بفضل الطباعة، واخذ رجال الفن في أوربا يستهلون الزخارف منها، حتى استطاع المصور (هولباين Holbein أن يبتكر زخارف مستوحاة من التوريق الإسلامي، ومنذ ذلك ظهر اصطلاح “الأرابيسك” في أوربا.
وقد كان الخط الكوفي من أشهر العناصر الزخرفية الإسلامية التي اقتبسها الأوربيون، وانتشر هذا التأثير في النحت والعمارة وامتد إلي أعمال المصورين، ولعل أغرب ما حدث من تأثيرات الخط الكوفي أنه كان حافزاً لتطور الحروف اللاتينية، فاتخذت له حليات زخرفية، وصورت علي غرار الحروف الكوفية، ورسمت بأسلوب التكرار والامتداد والتشبيك والتعقيد، ثم اختلطت بعد ذلك الكتابة اللاتينية في العصر القوطي بالكتابة الكوفية، وأصبح الناس حينئذٍ يظنون أنها كتابة واحدة. وهناك من الشواهد الأثرية المبكرة ما يدل علي اقتباس الخط الكوفي لزخرفة التحف، مثل الصليب المحفوظ بالمتحف البريطاني، والذي كتب عليه بالخط الكوفي “بسم الله”.
كما استخدمت الزخارف الكتابية العربية، في تزيين لوحات بعض المصورين الايطاليين في القرنين الثامن والتاسع الهجريين، كما وجدت الخطوط العربية في زخرفة العمائر والكنائس الأوربية، ونجدها علي أطراف الأثواب التي يلبسها القديسون.
وفي مجال الزخرفة ظهرت الرسوم المتشابكة بنفس الأسلوب العربي الإسلامي، ولا أدل علي ذلك من تلك الصينية المشهورة، التي زخرفت برسوم متشابكة ذات طابع عربي، وازدان وسطها بحلقة تحيط بشعار أسرة (أوشي دي كاني (Ochi Di Cane من مدينة (فيرونا).
يضاف إلي هذا ما أبدعه فنانو عصر النهضة، من تصاوير ولوحات تمثل حضارة الشرق وعاداته، فمن خلال أعمال كل من: (جنتيللي بلليني)، و(غوزولي)، و(جيوفاني مانزويتي)، و(فيروزنز) يمكننا أن نحدد مدي نظرة الغرب إلى المجتمع الإسلامي الشرقي.
وقد يضيق المجال هنا للحديث عن أثر الفن الإسلامي في الفنون المعمارية الأوربية عبر التاريخ، فلقد تحدث المؤرخون كثيراً عن هذا الأثر نذكر منهم: (كورجوا (Courjoi، و(كادافالش (Cadafalch، و(إميل ميل E. Mal) وغيرهم الكثير.
خلاصة القول، إن الزخرفة هي سجل لمراحل تطور الإبداع الإنساني في مجال الجمال، هذا الجمال الذي ازداد بريقاً ولمعاناً بما أضاف إليه من خصائص فنية اصطبغت بروح الإسلام، تلك الروح الذي جمعت حضارات مختلفة انسجمت في ظل الإسلام فأعطت إنتاجاً فنياً رائعاً، كان دائماً قادراً على مضاهاة غيره من الفنون. كما يمكننا القول إن الفن الإسلامي قائم على فكرة فلسفية عقائدية، وهي فكرة سرمدية الله، وفناء الكائنات، {ويبقى وجه ربك ذو الجلال والأكرم} (الرحمن: 27). وعلى هذا فإن ديمومة كل شيء مرتبطة بمشيئة الله، فكل شيء زائل وباطل إلا وجه الله تعالى.
المراجع:
1- محمد عبدالعزيز مرزوق، الفنون العثمانية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1988م.
2- أحمد فكري، في العمارة والتحف الفنية، مركز مطبوعات اليونسكو، القاهرة – 2000م.
3- عفيف بهنسي، النقد الفني وقراءة الصورة، دار الوليد، القاهرة – 1997م.
4- عفيف بهنسي، أثر الجمالية الإسلامية في الفن الحديث، دار الكتاب العربي، دمشق – 1998م.
5- سعاد ماهر، الفنون الإسلامية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة – 1987م.
6- حسن الباشا، موسوعة العمارة والفنون الإسلامية، الدار المصرية اللبنانية، القاهرة – 1994م.
7- محمود إبراهيم حسين، موسوعة الفنانين، دار نهضة الشرق، القاهرة – ذ987م.
8- محمود إبراهيم حسين، الأرابيسك، القاهرة – 1987م.
9- جمال عبدا لرحيم، الفن المملوكي، القاهرة – 1999م.
10- وجدان علي، التعريف بالفن الإسلامي، دار البشير، عمان – 1988م.
11- شربل داغر، صناعة الزينة والجمال، المركز الثقافي العربي، 1999م.
12- سعيد حسين نصر، الفلسفة والأدب والفنون الجملية، عكاظ للنشر، 1984م.
13- عبد العزيز حميد، الفنون الزخرفية، بغداد – 1982م.
14- ايفا ويلسون، الزخارف والرسوم الإسلامية، ترجمة آمال مريود، دار قابس، بيروت.
15- محمود شكر محمود الجبوري، جماليات الخط والزخرفة العربية، مجلة المورد، المجلد التاسع، العدد الثاني، بغداد – 1980.
16- زخرفة الفضة والمخطوطات عند المسلمين، معرض بقاعة الفن الإسلامي، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، الرياض، 1408 – 1409 هـ/ 1988 – 1989 م.