إن للبسملة في حياة المسلم شأن عظيم في كل أقواله وأعماله، فقد استفتح بها الله كل سور القرآن (إلا ما كان من سورة التوبة “براءة”)، وذلك مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: “كل عمل لم يبدأ باسم الله فهو أبتر”. لذا فقد اعتنى بها الخطاطون على اختلاف شرائحهم وأمزجتهم وإبداعاتهم، فوضعوا لها القواعد الدقيقة الضابطة لأصولها، وحرصوا على تجويدها بكل الخطوط المتوفرة: تارة بخط واحدة، وتارة بمزج خطين وأكثر. وابتكروا لها أشكالاً خطية ومتراكبة، وظهرت كتوقيع طغراء فضلاً عن العديد من الأشكال الكثيرة المتعددة … مما أعطى دليلاً قاطعاً على اهتمام الخطاطين كافة بها، وأصبح التباهي بينهم بابتكار شكل لم يسبقهم إليه أحد …
وفي مقالنا هذا نتناول أنموذجين للبسملة بشكل سطر كتابي مرسل يختلفان من حيث البناء التصميمي لهما، فقد وظف الخطاط خواص حروف الثلث بطريقة فنية مؤسسة وفق المقومات البنائية للتركيب الخطي البسيط. ويمكننا تحليل الأنموذجين كما يلي:
الأنموذج الأول:
اعتمد الخطاط بالدرجة الأولى في تصميم هذه العينة على خاصية المد للحروف الأفقية (السحبات)، فعملت هذه المدة على تقسيم البنية العامة إلى جزئين غير متساويين من حيث حجم الكتل الخطية أو ثقل الوحدات الموزعة على طرفي المحور المركزي .
كما نظمت حروف هذه العينة بشكل فني ومدروس وفق حسابات مسبقة وذلك من خلال طريقة التنظيم المكاني الصحيح للحروف والكلمات القائمة على أساس التوازن اللا شكلي للعناصر الخطية عبر المساحة المخصصة للبسملة، إذ وظفت مدة حرف(السين) بصورة طويلة تجتاز منتصف التركيب العام. بمقدار ثلثي السطر تقريباً، بينما المساحة المتبقية للكلمات والحروف التالية من بعدها.
وعند تحليلنا لهذه العينة نلاحظ إن هناك مرتكزات عديدة تعمل على تحقيق ذلك التوازن بين طرفي السطر، إذ تكمن تلك المرتكزات في كيفية توظيف خاصية المرونة والمطاوعة بشكل ينسجم مع الشكل العام، وهذا ما نلاحظه في حرف (الميم) واستقرار لفظة الجلالة عليها وحرف (الراء)، واستقرار مقطع (حمن) عليها كما هو الحال في حرفي (النون والراء).
هذا من جانب خاصيتي المد والمرونة والمطاوعة. أما بالنسبة للمقومات البنائية لحروف هذا التركيب فيمكن ملاحظة جملة أمور منها:
1) تطابق حرفي (الباء) الأولية والتي تكتب بصورة خاصة في البسملة (وهذا المتعارف عليه لدى الخطاطين) مع حرف (اللام) الأولية من لفظة الجلالة. مما يدل على حرص الخطاط في خلق وحدة من حيث الموقع على السطر والترابط على جانبي التركيب كما في الشكل (أ).
2) وجود نسبة وتناسب بصورة فائقة ومدروسة ما بين الحروف، ونلاحظ ذلك عندما نرسم خطاً وهمياً من حرف (الباء) بداية التركيب إلى حرف (الألف) من كلمة لفظة الجلالة إلى (ألف) الكلمة التي تليها، وهكذا نلاحظ أن هناك نسبة تصاعدية لشكل التركيب العام. أما بالنسبة إلى نسب الحروف فيما بينها فنلاحظها عندما نرسم خطاً مستقيماً ما بين حرف (النون) مروراً بحرف (الراء) إلى حرف (الميم) النهائية من كلمة (الرحيم) فإننا نجد الحروف بحالة استقرار متناسب واف، كما هو الحال في رسم خط وهمي ما بين حرف (الميم) و(الحاءان) لكلمتا (الرحمن الرحيم) كما في الشكل (ب). نستخلص مما تقدم إن هناك نسبة وتناسب في عملية بناء هذا التركيب مما أدت إلى خلق إيقاعات تناغمية تزداد وتنخفض بين الحروف المنبسطة والحروف المستقيمة، إذ عملت تلك الإيقاعات على الإيحاء بتقليص الفضاءات المتحققة بين الحروف وتوصيلها إلى فضاءات ذات أبعاد توحي بالمحيط الكفافي (الإغلاق الشكلي) الوهمي المؤسس لحاسة البصر، فيظهر له على شكلين أو على جزئين علوي والأخر سفلي يعملان على تحديد نقطة بداية التركيب بنقطة نهاية التركيب وبصورة مباشرة ومؤثرة في بناء السطر الكتابي. (الشكل ب)
3) تأكيد الخطاط على مزاوجة الاتجاهات العمودية والأفقية والمائلة من خلال ما يأتي :
أ. الاتجاه الأفقي: وتمثل هذا الاتجاه في سحبة حرف (السين) الأفقية السائدة على بقية الاتجاهات الأخرى وتعزيزها بانتظام الحروف والكلمات التي تليها على سير اتجاهها .
ب-. الاتجاه العمودي : وتمثل هذا الاتجاه في انتصاب الحروف الصاعدة كترويسة حروف الباء الأولية والألفات واللامات واستقرارها على السطر مع الحروف الأفقية .
ج.- الاتجاه المائل : لقد عزز هذا الاتجاه بصورة واضحة وذلك بطريقة رسم العلامات الإعرابية (الفتحات) وتركيزها في ملء الفضاءات التي ظهرت فوق (لفظة الجلالة والرحمن والرحيم) من أجل تحقيق المحيط الكفافي للشكل.
4) خلق علاقة التكرار للحروف المتشابهة عن طريق استثمار خاصية تعدد هيئة الحرف الواحد لإخراج الحروف بنسق واحد كما نلاحظه في حرف (الميم والراء والنون والراء) وتركيز الخطاط على تلاحمها بعضها مع البعض الآخر بطريقة تؤدي إلى وحدة العمل الشكلية.
نستنتج مما تقدم في تحليل النموذج: إن خواص حروف خط الثلث وحدها لا تكفي لخلق تركيب خطي ناجح، فهناك مقومات وخصال وأسس بنيوية يتم الاعتماد عليها لحساب أساس التركيب مسبقاً حتى وإن كانت أسطر كتابية بسيطة.
الأنموذج الثاني:
اختلف هذا الأنموذج عن الأول بصفات عديدة حتى وإن كان لنفس النص، فالضرورة التصميمية لها أهمية كبيرة في تحقيق الشكل الخارجي للموضوع أو النص. فتم ترتيب كلمات هذا التركيب بصورة متناسقة وفق نسق متسلسل وبسيط من دون أي مدات أو سحبات، إذ برز من خلال تحليل الشكل وجود ثلاثة خطوط مستقيمة وهمية ذات اتجاه أفقي تأسس عليها التركيب، ويتضح ذلك من الشكل (ج) حيث نجد الخط رقم (1) قد ربط ما بين رؤوس الحروف الصاعدة بمستوى واحد. أما الخط رقم (2) فيمتد من ترويسة حرف (الباء) الأولية مخترقاً حروف التركيب مروراً بحرف (الحاء) من كلمة (الرحمن) وحتى حرف (الحاء) من كلمة (الرحيم)، فعمل هذا الخط إلى تقسيم البنية الكلية إلى جزئين غير متكافئين من حيث الحجم وثقل الكلمات، فالجزء العلوي اعتمد على العلامات الإعرابية والتزيينية في عملية ملء الفضاء وتحقيق المحيط الكفافي العلوي. أما الجزء الأسفل فاعتمد على ثقل الحروف والكلمات لتحقيق المحيط الكفافي الأسفل بالإضافة إلى مساعدة الخط رقم (3) الذي عمل على وصل نهايات الحروف المقوسة (الميم والراء والنون) واستقرارها عليه.
ونستنتج مما ذكر أن مجمل تلك الخطوط الوهمية أسست لبناء هيكلية التركيب الأولية، وعملت على تنظيم مفرداته بصورة متوازنة ومتناسقة وذلك بتوظيف الحروف الصاعدة كل حسب موقعه من السطر مما أدى إلى خلق فضاءات متشابهة من حيث موقعها فوق الكلمات مثل الفضاء فوق كلمة (بسم) يقابله الفضاء فوق كلمة (الرحيم) من الجهة المقابلة، فضلاً عن معالجة تلك الفضاءات بالحركات الإعرابية (الفتحة) التي ظهرت بزاوية (20) درجة تقريباً بشكل متكرر لثلاثة مواقع، مما أدى إلى خلق نوع من الوحدة في الشكل والتنوع في الموقع لتعزيز وحدة الشكل العام في نفس الوقت الذي توافقت فيه الحروف المنحنية وبدايات الحروف الصاعدة التي اتخذت زاوية (70) درجة تقريباً . كما في الشكل (د).
ونستنتج مما ذكر إن غاية الخطاط من تصميم تلك العينة بهذا الوجه هو: خلق إيقاعات متنوعة ذات نسيج متقلب، أي إيقاع يهيمن على الإيقاع الذي يليه، وهذا ما نلاحظه في اتجاه العلامات الإعرابية التي تتخلل التركيب واتجاه الحروف الصاعدة والمنحنية، مما يعني وجود إيقاعات مختلفة في التركيب احدهما يهيمن على الأخر فضلاً عن استحداث علاقة التكرار في خلق الهيمنة من خلال تكرار أجزاء بعض الحروف وتنوعها في الموقع للتركيب نفسه، فضلاً عن الدور المهم الذي أدته الخطوط الوهمية في تأسيس العمل الخطي.