لقد احتلت الكتابة العربية منزلة عظيمة ومكانة كبيرة عند العرب والمسلمين تقترب من التقديس، فقد ارتبطت الكتابة روحياً “بقدسية القرآن الكريم” (ولا غرو فالكتابة هي الوسيلة الوحيدة لتدوين كلام الله وأحاديث رسوله، والتدوين هو وسيلة البقاء ووسيلة الذيوع والانتشار).
ولعل أول مظهر من مظاهر الفن والجمال التي عني بها العرب بعد إسلامهم كان في تجميل الخط، وتجويد آيات القرآن الكريم كتابة، مثلما عنوا بتجويدها قراءةً وترتيلاً.
والخط العربي عنصر من العناصر التي استعملها الخطاط العربي والمسلم في موضوعاته، فقد كان التبرك بكتابة الآيات القرآنية أمراً يكاد لا يخلو منه عمل فني في مسجد ومنارة في الأقطار العربية والإسلامية في أرجاء المعمورة، نظراً لخصائص الخط التي تتيح له التعبير عن قيم جمالية، ترتبط بقيم عقائدية تجعله متميزاً عن أي غرض إنتاجي آخر.
ولقد تطور الخط العربي وغدا فناً جميلاً احتل الصدارة بين الفنون العربية والإسلامية، وساعد على ذلك ما تمتاز به طبيعة الخط العربي وأشكال حروفه من الحيوية مما هيأ له فرص التطور.
وليس أدل على ذلك ما تحمله أشكال الحروف العربية من بذور الخصب والابتكار والتنوع، أن هذا التنوع في الأشكال مكن الفنان العربي والمسلم من معرفة مظاهر الجمال التي يتميز بها أي فن من الفنون.
إن خطوط الدنيا لا توازي الشكل والتطور الذي حظي به الحرف العربي، حتى وصلت الكتابة العربية إلى حد الإعجاز في الإجادة والإبداع، وإن هذا يعود لما أولاه العرب والمسلمون للحرف من منزلة قربت من القدسية لارتباط الحرف بكتاب الله (جل جلاله) القرآن الكريم.
ويقول “باول بارتيس” حول الدور المكرس للغة وكلماتها عند العرب: (في الإسلام يلعب الوازع الديني دوراً أساسياً في عمل الخطاط الذي يعبر في عمله عن التسليم لله والتوكل عليه).
ويتجلى هذا المفهوم “مثلاً” في كتابة (لفظ الجلالة).
ولفظ الجلالة كموضوع يحتل عند العرب والمسلمين مكانة خاصة في نفوسهم وأرواحهم، كما حددتها العقيدة الإسلامية لقدسية هذه اللفظة وارتباطها بعالم السماء، لذا أفرد لها الخطاطون صياغة خطية تشكلية خاصة بها تشذ عن بقية التركيبات البنائية لكل نوع من أنواع الخط كعرف قائم وسائد في كل القواعد؛ حتى لا تتساوى مع غيرها من الكلمات، لأنها صياغة إيمانية في تركيبات بنائية.
ولقد تبوأ الخط العربي منزلة متميزة في التراث العربي والإسلامي إلى جانب تعبيره ودلالاته على قيم فنية وجمالية معينة، لأنه ينقل إلينا من خلال الكلمة المجودة مضمونها ومعناها، وعندئذٍ يلتقي جمال الكلمة مع قدسية المعنى.
وتمتزج الثقافة بالفن ويحتفظ أحدهما بالآخر ليصبحا معاً وسيلة من أعظم وأرقى وسائل المعرفة للإنسان.
وفي الخط العربي، بالذات، تسمو قيمة، الشكل بقيمة المضمون، حيث يكتسب الشكل في التكوين الفني قيمته المتعالية والمتسامية من تعالي المضامين البليغة والخالدة وسموها التي اتجه الخط العربي، ولا يزال إلى التجويد الفني السامي في التعبير البصري عنها عبر أداء خط الآيات القرآنية الكريمة، والأحاديث الشريفة، والحكم والأمثال الخالدة، والمقولات السديدة والبليغة، وروائع الأعمال الأدبية.
وفي ضوء هذا المسار يؤكد الخطاطون في لوحاتهم الخطية على حرصهم الشديد على تعميق ارتباط الشكل بالمضمون، ومن هنا يجري التجويد في الأداء، ويحرص الخطاط على أن يكون مجيداً مبدعاً، يؤكد ذلك قوة أدائه الفني لشكل الحرف العربي وفق أصوله وقواعد الخط العربي.
ونرى الخطاط يواصل جهوده في تحقيق الاهتمام بمعمارية البنية الخطية. وتراه أيضاً يستخدم اللون استخداماً فنياً مبدعاً في تشكيل البنية الخطية لتحقيق العلاقة بين الشكل والمضمون وكقيمة فنية وجمالية تعبيرية في اللوحة الخطية.
جريدة الأسبوع الأدبي العدد 1034، 9/12/2006