يعتبر الحرف العربي هو الحرف الوحيد الذي يمتلك ميزة التعبير عن نفسه من بين حروف الأمم الأخرى، وهو الوحيد الذي يمتلك القدرة على جعل الآخرين يحترمونه، ولذلك كان لهذا الحرف المجرد من الكلمة قيمته لدى الفنانين، حيث استطاع الفنان التعبير به، فأعطى وأثرى الساحة الفنية بأجمل النماذج، وساعد الحرف العربي على ذلك نتيجة الطوعية والمرونة والاختزال التي يتميز بها.
إن في مكنون حرفنا العربي روحاً جمالية لا تدركها إلا النفوس الولهى بهذا الجمال، وتعتبر المهارة الفنية والموهبة المتأصلة هما أساس للصدق التعبيري وسبيل للمعاناة الصادقة في صياغة الحروف وخط اللوحات، لذلك فإن الحرف العربي يحمل من التعبير ما يدهش به العاقل لحمله سراً خفياً لا يتجلى في مظهره، بل هو موجود في روحه التي يحملها وقد قالوا: “إن الخط العربي أينما ظهر بهر”. وأنا شخصيا أقول: إن حروف الخط العربي ليست حروفاً عادية بل هي حروف من نور.
والفنان الموهوب هو الذي لا يكتفي بكتابة هذه الحروف مجردة من الروح بجوار بعضها، بل يسعى جاهداً إلى افتعال نغمات فنية في لوحاته تثير مشاعر المتلقي، وتجذب انتباهه، ومما لاشك فيه أن ذوي الذوق الفني، والحس المرهف لابد وأن يروا في الحرف العربي من تصور وتعبير دون غيرهم.
تكمن في داخل الحرف العربي طاقة انفعالية يودعها الخطاط بداخله، ويشعر بفيضها كل من كان متفتح المشاعر، ثاقب المدارك والذهن، والخطاط الموهوب يرى في الحرف ما لا يراه الخطاط العادي.
ولقد استفاد الفنانون الغربيون من حرفنا العربي، فقام بعضهم باستخدامه داخل أعمالهم الفنية لكي يُكسبوا لوحاتهم الأصالة، وقد قال الفنان الأسباني المشهور (بابليو بيكاسو): “إن أقصى نقطة أردت الوصول إليها في فن الرسم وجدت الحرف العربي قد سبقني إليها منذ زمن بعيد”، ولذلك فأنا أرى أن حرفنا العربي جدير بالتعبير عن شكله ومضمونه، وأكثر تأثيراً وإبداعا وأصالة بتراثنا الحضاري، وأمتنا العريقة أنجبت من الأقدمين والمحدثين والمعاصرين رجالاً أثروا الدنيا بمخطوطاتهم.
وفي عصرنا الحديث الذي نعيشه جاء من عاش واقع الفن الحديث، فاكتشف في الحرف العربي المجرد حركة ديناميكية عجيبة، وكانت تلك تجربة فنية رائدة، إنها حصيلة مزج قام بها الفنان بين الأصول التقليدية، وفن الشكل الذي يعتمد على التعبير عن ذاته فظهرت صيغ جديدة جديرة بالفخر والإعجاب، إنها صيغ حديثة في أسلوبها، جديدة في ذاتها، تواكب العصر ومتطلباته، وتتميز بسرعة وحركة دائبة.
والخط عبارة عن شكل مرئي لا يحمل شيئاً واحداً فحسب، وإنما يحمل كثيراً من الأشياء، ويعني كثيراً من الأمور، إنه يُكون أكثر من مضمون، وينطوي على أكثر من مفهوم، لا تدركه أبصار الرائين من عامة الناس، وإنما هناك ثلة من الأفذاذ الذين وهبهم الله نعمة الجمال الروحي، ورهافة الحس المعنوي، فتغلغلوا في عالم الفن.
ومما يجدر به القول ان الجمالية التي يتسم بها حرفنا العربي لم تكن حديثة العهد به، أو اتصف بها عندما جاء الإسلام، بل انها طابع وسامة عُرف بها هذا الحرف دون غيره، منذ أن وجدوا أن الجمال اللامتناهي في هذا الحرف هو وليد مواقف فكرية عاش الإنسان العربي حقباتها التاريخية بدافع من تأمله وتذوقه للغته، ثم جاء الدين الإسلامي فكان حافزاً لصقل الموهبة وتنمية القدرات الفنية التي كانت بداخل الفنان المسلم فأكد فيها الناحية الروحية، لذلك جاء الحرف مرتبطاً بنا وبروحنا.
وإذا كانت الفنون التشكيلية التجريدية تستدعي غالباً مستوى من المعرفة بأصولها، والتدرب على تذوقها، بحيث يتعذر على من يراها للمرة الأولى دون معرفة سابقة بمفاتيحها أن يكتشف عوالمها، بالرغم من اعتمادها أحياناً على عناصر حافزة للعين كالخطوط والألوان والكتل والخامات، فالأمر ليس كذلك للحرف العربي فهو يقدم نفسه كياناً جاهزاً للتذوق والتأمل بدون أي من تلك الحوافز، وتنساب عذوبته الداخلية من أول لقاء له مع العين خصوصاً إذا كان الخط من عطاء فنان موهوب.