إن الخط العربي كسائر الفنون الأخرى شاهد على زمانه؛ فهو يُرينا بوضوح فترات الحركة أو الجمود في المجتمع الذي وُلد فيه. فكلما كثُر الإبداع في زمن ما، عكست الأعمال الفنية روح وجوهر المجتمع وحيويته في ذلك الزمن. وكلما ركدت الفنون ولم تكن سوى تقليداً لما سبقها؛ فإنها تُسجل بذلك مرحلة تخلف وجمود المجتمع في تلك الفترة. إن ما يمكن الحديث عنه في هذا المقال، هو: مظهر التكوين في الخط العربي فقط، أما جوهره فلا يمكن التحدث عنه بالكلمات، لأن تحسسه يكمن بتذوقنا له، تذوقاً فنياً عبر الرؤية المتمعنة والمتأنية.
بدايات الإبداع: بدأ الإبداع في الخط العربي أواخر القرن السابع الميلادي في خطوط قبة الصخرة بالقدس التي لم تزل موجودة حتى يومنا هذا. فقد تغيرت أشكال الحروف بسبب إنشاء الحروف من الأحجار الملونة، فتغيُر مادة الكتابة من الحبر إلى مادة أخرى فرض إعادة بناء الحروف من جديد. وفي خطوط محراب مسجد قرطبة في القرن العاشر الميلادي نرى الكلمات قد التصقت الواحدة بالأخرى، حيث ألغى الخطاط الفراغ التقليدي بين الكلمة والأخرى. وفي كلتا الحالتين نرى أن التصرف والإبداع قد تميز بجرأة وخروج عن المألوف. هذا وقد استمر الإبداع الفني، وتجاوز الماضي حتى زمننا الحالي في مسيرة مد وجزر استمرت لأكثر من ألف سنة من الابتكار، وإعادة البناء لنفس الحروف، فقد ترك لنا أجيال الخطاطين من القرون الماضية آلاف الخطوط في الكتب، وعلى الجدران.
متطلبات الإبداع:
يحتاج إبداع الخطاط في كل الأوقات للتشجيع المادي والمعنوي من المؤسسات الفنية والجمهور. وعندما يـُفقد التشجيع سينعدم الإبداع، وسيظل التقليد للماضي مهيمناً، أي المراوحة في المكان نفسه رغم أن عجلة الزمن تدور. كما يصطدم المبدعون في أكثر الأوقات بعدم فهم المجتمع لإبداعاتهم.
وما يجذب انتباهنا هو أننا نرى اليوم في بعض الخطوط القديمة قيمة فنية عالية جداً نعتبرها غاية في الجمال، ولكن ربما لم تكن كذلك في زمن ولادتها، إن الإبداع يكون دائماً غير معروف مسبقاً. بل يأتي في أغلب الأحيان من أماكن مجهولة غير متوقعة.
ولكن ما هو مؤكد أن الإبداع كان يأتي دائماً في زمن تتفتح فيه كل الأبواب أمام الفنانين دون رقابة أو توجيه صارم، ويزدهر الإبداع في زمن يتولى فيه الدفاع عن الطليعة الفنية بعض المثقفين أو المتنورين. كقول الشاعر “طاغور”: “إن تغلقوا أبوابكم أمام كل الأخطاء فإن الحقيقة ستبقى خارجاً …” فلابد للفن من حريات واسعة. وهناك حكيم آخر قال بنفس الفكرة عبارة أخرى: ” اتركوا في حديقتكم مكاناً للأعشاب الرديئة.”
أكتب هاتين العبارتين للتأكيد مرة أخرى أن لا إبداع دون حرية تعبير فني تفسح المجال لكل الأساليب، وتشجع كل التيارات حتى لو كانت كالأعشاب الرديئة في الحديقة الجميلة.
يحكم البعض على الفن انطلاقاً من فن الماضي فقط، ويقارن الأعمال الفنية لهذا العصر بما تحويه المتاحف من روائع، ونرى هذه الظاهرة كثيراً عند الذين يحكمون على الخط العربي وجودته مقارنة بخطوط الماضي، أو بالأحرى مقارنته بخطوط القرن التاسع عشر، ومع احترامنا للماضي فإننا لا نريد العيش فيه. وتأتي هنا مقولة كونفشيوس: “من لا يتقدم كل يوم يتراجع كل يوم”.
إذ لا يمكن اليوم معرفة ما هو فن اليوم بشكل مسبق، ففن اليوم وخط اليوم هو ما يمارسه الخطاطون والفنانون الذين يعيشون بيننا، وبعد مرور الزمن سيبقى الفن الجيد ويُنسى الرديء، وهذا هو المهم!
في كل البلدان المتقدمة في العالم تعمل المؤسسات الثقافية على جعل نصف جهدها لحفظ الماضي والنصف الآخر للبحث عن الجديد، بالتالي يُولد الحوار مع الماضي، وينمو النشاط الذهني والحسي لمن يزور المعارض، ولمن يقرأ النقد في وسائل الإعلام. عندما ننظر إلى تركة الخطاطين القدماء في الكتب أو على جدران المعالم المعمارية للزمن الماضي؛ نجد أن هناك تيارات متعددة في الإبداع الخطي في فترات زمنية كانت فيها المدن القديمة في تفتح وتفهم للخط والفن بشكل عام أكثر بكثير من اليوم.
هنالك مراحل زمنية يكثر فيها الإبداع وأخرى يقل فيها؛ ولكن ما يلفت النظر عندما ننظر إلى خطوط الماضي هو رؤية تكوينات مختلفة وعلى مواد عديدة في المتاحف والبنايات في المدن الإسلامية القديمة. بينما لو ننظر اليوم بشكل عام على مستوى الملايين من البشر في العالم العربي الإسلامي، فإننا نجد أننا اليوم نمر في أكثر الفترات فقراً في الإبداع الخطي. وهذا يعني أننا في حالة ركود على كل المستويات، فالفنون هي شهادة على المجتمعات التي ولدت فيها، بخصوبتها أو بانحسارها.
التكوين في الخط:
هو تجميع الكلمات فيما بينها، بهدف جمالي بحت على حساب المقروئية للعبارة المخطوطة، إذ تكون النتيجة عبارة متلابسة، ومتشابكة، وغير مقروءة.
هناك رغبة جمالية في خيال الخطاط تدفعه إلى تغيير مكان الكلمات والحروف، فيقارب الأحرف المتشابهة، ويجعلها تتعانق فيما بينها، ويبعد المتنافرة منها ويصغر من حجمها، ويبني تكويناً هندسياً أساسه الحروف العمودية الصاعدة والحروف المستقيمة والمدورة.
النظر للتكوين الخطي يكون بشكل كلي وليس جزئياً، ولا يجب رؤية الكلمات والحروف بشكل منفرد لغرض القراءة، إنما يتم بنظرة شاملة لأجل التذوق الجمالي البحت، كما ننظر للشجرة ككل ولا ننظر لكل غصن أو ورقة كل على حدة. ويفترض أن يعطي شكل التكوين للمشاهد رؤى التوازن الهندسي والتناغم الموسيقي، عبر تعانق الحركات الخطية وثقل وخفة الحروف، وعبر الامتلاء للحروف والفراغ حولها.
يستخدم الخطاط كل مهارته لإيجاد هذا التناغم، فيغير من شكل الحروف، أو يضع حرفاً يفترض أن يكون آخر الكلمة في الوسط. فكما هو معروف لكل من يكتب العربية أن الحرف العربي يأخذ أشكالاً متغيرة إن كان في بداية الكلمة أو في وسطها أو في آخرها. فتكون هذه القاعدة في لحظات تخيل شكل التكوين غير إجبارية عند الخطاطين، فيلعبون بالحروف كما يرغبون، ومن السهولة عندهم وضع حرف في وسط الكلمة على الرغم من وضعه المعتاد في آخر الكلمة.
أهداف التكوين:
الهدف الأول من التكوين هو جمالي، أي إعطاء المشاهد هندسية جديدة، ونغم جديد ما بين أجسام الحروف والفراغات المحيطة بها، فتكون هذه التكوينات مبعث طاقات جديدة تضاف لذاكرة البشر. فعندما يتحسس الفرد الجمال الفني يتحول هذا الجمال إلى طاقة مقوية للإنسان يستلمها عبر العمل الفني.
وفي حالة عدم التمكن من قراءة العبارة فان ذلك لا يسبب مشكلة للخطاطين؛ لأن هدفهم من عمل التكوين هو هدف فني قبل كل شيء وليس قراءة النص. ولما كانت التكوينات تستخدم نصوص وحكم مشهورة، فيصبح محاولة قراءتها من المشاهد نوع من النشاط الذهني، فبمجرد التعرف على بعض الكلمات يخمن المشاهد العبارة التي كتبت، وبأي طريقة حورت، فيتحول بدوره إلى مشارك في العملية الفنية.
كذلك يستخدم الخطاط كل ما يُجاز له استعماله، كتطويل بعض الحروف بشكل أفقي أو عمودي، أو وضع مدات ما بين الحروف، أو بدء العبارة من الأعلى إلى الأسفل أو العكس.
هل ذكريات الماضي في فراغ الصحراء والكثبان الرملية الأفقية المتموجة هي التي دفعت الخطاط نحو التكوين الثابت المبني على الهيكل القائم عالياً في الفضاء؟
مراحل إنشاء التكوين:
يبدأ الخطاط بتخيل شكل هيكل هندسي مبسط دون حسابات رياضية لتتوضع عليه الحروف، ويتم تقدير الشكل وثقله بالتخيل. وهذا الهيكل الهندسي الوهمي هو الذي سيعطي التوازن والتناغم للتكوين، كما سيمنح القوة لتماسك الكلمات ويكون هذا الهيكل اللا مرئي كامناً خلف الحروف -تماماً كما يختفي الهيكل العظمي خلف عضلاتنا- وسيكون هذا الهيكل اللا مرئي نفسه سبب إعجاب كل من لا يقرا الحرف العربي بالتكوينات الخطية؛ لأن هذه الهندسية البدائية البسيطة هي لغة عالمية كما أن التوازن الذي تسمح الهندسة به هو مصدر سعادة داخلية.
تسمح بعض الأساليب الخطية للخطاط بتحقيق رؤيته على الورق أكثر من غيرها، فقد ساعدت مرونة بعض الأساليب الخطية، كأسلوب الثلث، على إنجاز التكوينات ذات الحروف المدورة، بينما استعمل الخط الكوفي للتكوينات ذات الخطوط المستقيمة. في البداية يتخيل الخطاط أشكال حروفه بهدف عمل التكوين، كتمثال كبير من الكلمات، يقف على الأرض، ويصعد عالياً في الفضاء.
يفكر الخطاط في بناء جديد للعبارة، ويتحسس حروفه الصاعدة، والتي ستواجه ضغط الفضاء، وشد الجاذبية الأرضية. ومهما كان التكوين الخطي صغيراً فانه صورة لعالم أكبر. وهكذا تكون الأمور دائماً في الخط حيث أبسط حرف يمثل في ذهن الخطاط عوالم واسعة من الأشكال والمعاني. يلتزم الخطاط بالأمانة في انجاز الحروف بأحسن ما يتمكن، من أصغر حرف إلى نهاية التكوين، ولا يمكن أبداً الغش في مجال الخط. فان لم يكن الخطاط على أحسن ما يرام، فان ذلك سيبدو واضحاً في ضعف الحروف وهشاشة التكوين، فعليه أن يلتزم ذهنياً وجسمانياً وبكل أحاسيسه في تركيز تام قبل أن يبدأ بالكتابة، وان اختل تركيزه بسبب ما واضطرب فسيكون ذلك واضحاً للعين المتمرسة، التي سترى خطوطه فيما بعد.
لذلك يبحث الخطاط قبل بدء الكتابة عن جو هادئ، كما يمارس التمرين بخط كل حروف الألفباء للأسلوب الذي سوف يكتب فيه، ويكررها لساعات طويلة، حتى يشعر تماماً بكمال قدرته، وتمكنه من كافة حروفه، عندها يبدأ خط التكوين.
إن هذا التمرين لن يكون تقنياً فحسب، بل يقود الخطاط إلى أجواء داخلية هادئة، وصفاء روحي، ورؤى سامية، فتتيقظ عنده كل خلايا الجسد رغم مظهره الساكن، ويبقى عالمه الداخلي في حركة دائبة. إن هذه الأحاسيس الداخلية هي التي تصب في الحروف وتغذيها بطاقات عالية، فاليد تتحرك ببطء لكن الفكر والأحاسيس تتخيل الأشكال بسرعة.
عندما يكرر الخطاط كتابة الحروف في التمرين فهو يدفع الذهن ليذهب إلى أماكن فسيحة واسعة وفارغة، ترتسم فيها بوضوح صور التكوينات المتخيلة والتي يريد إنشاؤها، وتدريجياً يملأ هذا الفراغ الذي يراه بمخيلته بالخطوط والتكوينات، وصدى العبارات المخطوطة، فيتوجه عند ذاك بقلمه نحو المحبرة ليخط ما نسجه في خياله، فتتحول الورقة إلى شكل المنظر الفسيح الذي تخيله، يمارس فيه الخطاط حرية التعبير والابتكار بتشكيلات جديدة، تكوينات لم تعرف من قبل، ولكنها على صلة عائلية بخطوط الماضي.
يبدأ الخطاط بكتابة الحروف التي توحي بالثبات، حيث يكون هذا الثبات دائماً هو مركز التكوين. وعليه ألا ينسى بعد ذلك أن يعطي لبعض الحروف حافزاً للهروب من قلب التكوين، وان كانت هذه الثنائية ناجحة وواضحة للمشاهد، فإنها من أهم الأشياء في نجاح التكوين. وقيل قديماً أن أفضل الخطوط هو ما يبدو متحركاً رغم ثبات الحروف. ونرى هذا في الفنون كلها، فقد كان الفنان الإيطالي “مايكل انجيلو” يقول لطلابه: “عندما ترسم إنساناً، دع ذراعيه توحيان بحركتين، إحداهما تذهب إلى الأمام والأخرى إلى الخلف”.
والفنان الصيني يقول لتلميذه: “عندما ترسم غيمة في السماء اجعل أحد طرفيها يوحي بابتلاع شيء ما، والطرف الآخر يوحي وكأنه يسقط شيئاً ما”
إن الحروف التي توحي بالثبات، هي التي تسمح للحروف المتحركة بالظهور، وهذه العلاقة النسبية تتم في مخيلة المشاهد.
تتشابك الحروف وتتلاقى كفرقة رقص على المسرح تطمح للتحليق في الفضاء بحركات سلسة وقوية، تخاطر بالسقوط، لكنها لا تسقط قط. كل حرف في التكوين له موقعه ومظهره المتحرك أو الثابت، حركات تعبيرية لا يمكن وصفها بالكلمات، ويبقى على المشاهد نفسه تحسسها وترجمة جمالياتها إلى طاقة فنية، كغذاء فني.
يمكن للخطاط أن يعطي لنفس العبارة ونفس الكلمات تكوينات متعددة ومختلفة، يعكس فيها مفهومه الجمالي وفلسفته ونظرته للعالم، يمكن أن يكون التكوين منغلقاً على نفسه، أو متفتحاً على العالم، يمكنه أيضاً أن يكون واقفاً، ويمكنه أن يكون راكضاً.
مهما كبُر أو صغُر التكوين الذي ينتجه الخطاط، فانه يبقى محتفظاً بقوته التعبيرية بسبب الهيكل الهندسي التجريدي الذي فكر به في بداية عمله الخطي.
الديناميكية في التكوين:
تتكون الديناميكية في التكوين في البداية من أصغر الحروف، ثم من الكلمات، وأخيراً في التكوين كله.
أ) ديناميكية الحروف:
تأتي قوة وديناميكية الحروف من داخل كل حرف. فمثلاً، لو أخذنا حرف الألف في خط الثلث، فانه عند الخطاط ليس خطاً مستقيماً فقط، بل هو سلسلة من الحركات المتموجة اللامرئية داخل الخط، فهذا الحرف الذي يبدو مستقيماً للوهلة الأولى إلا أنه مجموعة من حركات معقدة، فيبدأ الحرف من الأعلى بتقعر خفيف غير مرئي لجهة اليمين، ثم تحدب نحو اليسار، وبعد ذلك ينزل الحرف في استقامة وسطية، وقبل هبوطه لملامسة السطر يميل قليلاً نحو اليسار. وهذه الفوارق الصغيرة تعبر عن قوة الخط في الأساليب الكلاسيكية، وإذا فُقدت فسيكون الخط ضعيفاً. كذلك يخفي الخطاط في كل حرف مستدير أجزاءً صغيرة من الخطوط المستقيمة لمنح الحرف قوة تمنعه الارتخاء.
إن هذه الحركات الصغيرة الرهيفة التي يتعلمها الخطاط الناشئ من الخطاطين الكبار الذين سبقوه، هي التي تجعل من حروفه خطوطاً ثرية التعبير الفني.
تأتي من قدرة الخطاط على إعادة صياغة ورسم الكلمة في كل مرة من جديد، ويمكن لذلك أن يحدث عبر إعادة كتابة نفس الحروف بشكل أقوى من السابق، أو البحث في خياله عن رسوم متعددة لنفس الحروف كي تشغل المكان بشكل أفضل. ففي أسلوب الثلث مثلاً؛ توجد لكل حرف عدة أشكال ابتكرها الخطاطون منذ قرون عديدة.
ج) ديناميكية التكوين كله:
قبل كل شيء، يتخيل الخطاط الاتجاهات العريضة للتكوين، والمساحة التي سيشغلها التكوين: المربع، أو المستطيل، أو المثلث، أو يجد شكلاً جديداً. ثم يأتي بالحروف ويُسكنها في تلك الفراغات، أو يسكبها كصائغ الحلية، يـُسكن الحروف داخل وحول الهيكل الذي تخيله. ولو بقيت حروف متمردة ترفض الانصياع والمشاركة بالعملية الفنية، فيترك لها مكان صغير، ويخطها بقلم رفيع كيلا يؤثر حجمها على المظهر الفني العام للتكوين. وهكذا فان الخطاط يتحكم بقوة في مصير حروفه. وفي أوقات نجد بعض الحروف عصية أيضاً، فهي تطيع بعض الخطاطين وليس جميعهم. ولهذا نعجب بخطوط البعض فقط، ونميل لرؤية خطوطهم باستمرار. إن مشاهدة تكوين قوي تهبنا شعوراً بالراحة والاطمئنان بعكس الخطوط الرديئة التي تخلق بداخلنا إحساساً بالقلق.
كانت التكوينات القديمة الجميلة، كأغصان سوداء متشابكة لشجرة محترقة بفعل حرارة الشمس في قلب الصحراء. حروف سوداء عارية كهيكل عظمي على خلفية صافية للفضاء … تشابكت الحروف في التكوين ولم تعد الكلمات تقرأ. فهدف الخطاط قبل كل شيء هو رؤية جمالية شاملة عبر الحروف كلها.
التكوين الخطي يعطي نصف المعلومات للمشاهد، أما النصف المتمم فيبحث عنه المشاهد في نفسه، يبحث عن المعنى محاولاً القراءة، ويتخيل أفكاراً في الشكل العام للتكوين قد تكون بعيدة تماماً عما تخيله الخطاط. آنذاك يضع حقيقته في العمل الفني فيشعر هو نفسه وكأنه قد ساهم في عمل التكوين، كما يمكنه أن يشعر هو أيضاً أنه مبدع خلاّق.
بدءاً من القرن الرابع عشر الميلادي، بدأت تظهر تكوينات تتسم بالجرأة في المعالم المعمارية في آسيا الوسطى، ثم إيران والعراق، ومصر. تكوينات متشابكة لا يستطيع أحد قراءتها، الهدف منا متعة العين لتنغمر في التأملات.
تكوينات الخط الكوفي الهندسي التي عُملت من الطابوق ألغت أهم ما في خط القدماء بسبب نوعية المواد الأولية للبناء، ألغت أهم ما كان معروفاً في الخط العربي، ألا وهو: النحافة والسمك داخل كل حرف.
في الخط الكوفي الهندسي المعماري يكتب الحرف بالطابوق، وكذلك الفراغ المحيط بالحرف يكون بسمك الطابوق أيضاً، وهذا كان فاتحة زمن جديد للخط طبقته جميع الدول الإسلامية بمعالمها المعمارية. ولم يكن ذلك خسارة لشيء، فالخط الكلاسيكي استمر وتقدم، وتطورت هذه الأساليب الجديدة أيضاً. ولو حدثت مثل هذه القفزة في عصرنا الحالي، لسمعنا النقد والعويل من الذين لا يريدوننا أن نتقدم خطوة واحدة.
للوهلة الأولى لا تبدو أي علاقة بين كوفي المصاحف وبين الكوفي الهندسي، ولكن عند التمعن جيداً نرى بوضوح العلاقة العائلية المتينة بين الاثنين. وهذا هو الخلق الفني، فهو في البداية يحيّر ويقلق، ولكنه في النهاية نكتشف انه ثراء وإضافة لما نملك.
وضعت الكتابة بالطابوق حلولاً عديدة للمساحات التشكيلية في العمارة، إذ أن كل الخطوط السابقة التي خصصت للعمارة لم تكن متناسبة، لأنها تقليد لخط المصاحف؛ أي تقليد خط منقار القصبة في حركاته الرفيعة والسميكة. بينما في الكوفي الهندسي، فلأول مرة تدخل الخطوط بالضبط في المساحة المخصصة لها من قبل المعماري.
بعد ذلك واصل الخطاط القديم إبداعه فأعطى ديناميكية أكبر للخطوط على المنارة فجعلها تنزل مائلة بشكل حلزوني. وحتى المربعات المخطوطة أخذت فيما بعد أشكال قلقة بجعلها ترتكز على نقطة واحدة. وهكذا فإن خط المصاحف بقي في المصاحف. أما العمارة فأنها وجدت ما يناسبها. والنتيجة هي إثراء للفنون وبهجة للعيون. هذا مثال واحد من أمثلة كثيرة لإبداع الخطاطين في الماضي، حيث كان الخطاطون والشعراء والموسيقيون في طليعة المجددين داخل المدينة الإسلامية.
وقد يُطرح اليوم سؤال: ما مدى أهمية وضرورة الحاجة للخط في العصر الحديث؟ إن المعالم الكبرى يقوم بها معماريين ليس لهم علم بجماليات الخط العربي، كما أن احتياجات الخط الأخرى يمكن أن تقوم بها وسائل الطباعة الحديثة…! والجواب على ذلك: لو نظرنا إلى ما تبقى من المعالم القديمة والديكور الخطي، سندرك أن هذا الفن يمكنه أن يغذي باستمرار الأحاسيس والمشاعر لحاضرنا ولمستقبلنا، بالإضافة إلى ذلك؛ فان الأجيال الجديدة من الخطاطين يمكنها أن تخلق أجواءً جديدة لحاجات جديدة. إذ لا يمكن للبحث الجمالي أن يشبع رغباتنا فقط، إنه التقدم والتطور بحد ذاته.
وللوصول إلى حركة فنية قاعدتها الخط العربي، لابد من وجود صحف وكتب تهتم بالخط، حيث أصبح من السهل حالياً تصوير الخطوط على المعالم وطبعها، كي يتعرف عليها الخطاطون الناشئون، وتكون دراستها هي المادة الأولى لخلق خط حديث. كذلك لابد من معارض ولقاءات تخلق مناخ إبداع وتجديد وحوار … ؟ كما لا ننسى ضرورة اقتناء أعمال الخطاطين وشراؤها حتى يستطيع الخطاط مواصلة إعطاء الزمن الذي تتطلبه العملية الخطية.
القيود في الخط ودورها:
في القرون الأربعة الأخيرة كانت الدولة العثمانية هي التي تقود مجموعة الخطاطين على أراضيها. كان الطالب الصغير يدق باب خطاط كبير، وبعد التجربة قد يقبل به الأستاذ كمتعلم أو لا، وعلى الطالب احترام أستاذه وتتبع أسلوبه، لكي يتعلم منه قوانين الخط التي تعلمها الأستاذ سابقاً من أستاذه. وهكذا فإن التعبير الخطي أخذ هذا المنحى عند الدولة العثمانية التي هيمنت منذ القرن السادس عشر على كل الدول العربية ما عدا المغرب.
كان العمل الفني يدور داخل شبكة من القوانين والمفاهيم يحترمها الجميع، ومن لا يريد احترامها يضع نفسه خارج قوانين الفن الذي يزيّن معالم المدينة، ومن اختار الخروج على نظام الدولة، فلن تكلفه الدولة بطلبات لإنجاز بعض الأعمال، وعندها سيذهب إلى السوق ليخط للصفاريين ببضعة دراهم أو يقوم بأي عمل آخر، كتعليم الأطفال في المحلات الفقيرة، بالتالي لن يكون لديه وقت للبحث والتطور، لأنه سيعمل كثيراً وبمورد قليل.
وعندما انهارت الدولة العثمانية، لم تعد قوانينها الفنية تساوي شيئاً، فقد انتهى حال الخطاط حتى يومنا الحالي. واستمر الخط القديم بجهود بعض الخطاطين الذين قدروا أهمية هذا الفن لمجتمعنا العربي ولكل من يستعمل الحرف العربي.
ربما كان الهدف من القوانين القديمة في الخط احترام التراث والحفاظ عليه. ولكننا اليوم نرى أنها قد أصبحت في بعض البلدان عائقاً لمواصلة هذا التراث، وحتى أن بعض البلدان لم تستطع المحافظة على الخط القديم. فقبل قرن من الزمن كان عدد الخطاطين يحسب بالآلاف، أما اليوم فانه يحسب بالعشرات.
إن هذا المثل يمكن تطبيقه على كل نشاطات الدولة العثمانية، بل هو أحد الأسباب التي أدت إلى الانهيار المفجع لهذه الإمبراطورية. كما لا يجب أن ننسى أن جمود جيل من البشر سوف يؤدي إلي فقر الجيل الذي سوف يخلفه
بل انه لمن المفجع بشكل أكثر رؤية التوجهات الثقافية في مجال الخط عند بعض الدوائر الرسمية اليوم تمثل امتداداً للقوانين الصارمة للنظام العثماني تجاه الخط والتي سبق ثبوت فشلها.
إن جماهير الدول الإسلامية تعيش الفقر الثقافي، والكثير من شبابها يحلم بالهجرة إلى العالم الصناعي، إلى الدول التي تفتح ذراعيها أمام الخلق الفني بكل اتجاهاته، وذلك بسبب ركود مجتمعاتنا ثقافيا، وتقلص الإنتاج الفني الذي هو إنتاج روحي قبل كل شيء يهدف لتطوير الذوق البشري، والسمو بأخلاق المجتمع ككل.
الخوف من التجديد هو أحد أسباب سقوط الإمبراطورية العثمانية وتمزيقها. وهذا ما نلمسه الآن في الكثير من بلداننا، حيث يشعر الناس بهذا الاختناق الحالي، ويطالب البعض بسذاجة بالعودة إلى الماضي، إلا أن الرجوع إلى الخلف هو قراءة خاطئة للتاريخ. بينما يفترض الإسراع للأمام والتطور مستغلين كل إمكانيات التطور البشري الحديث. فلنتذكر فقط فترات الانفتاح الماضية وخيراتها، ونأخذ أجمل ما خلفه لنا الماضي ونطوره باتجاه المستقبل.
ولتوضيح التطور الذي مر به الخط في الزمن الماضي؛ يمكن أن نأخذ كمثال على ذلك استعمال الخط الكوفي بشكل واسع للمصاحف في القرن التاسع، ولكن بنهاية القرن العاشر بدأ التحول نحو استعمال أسلوب النسخ.، لأسباب اجتماعية عديدة؛ أهمها الازدهار الحضاري للدولة الإسلامية الكبيرة المتعددة القوميات.
التقدم الحضاري في العصر العباسي سمح بولادة أساليب لا حصر لها في الخط العربي من إبداع الخطاطين، لان الدولة الإسلامية كانت آنذاك دولة مفتوحة، على شكل الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوربي في عصرنا الحالي. ففي العالم الغربي الواسع اليوم يتـنقل الناس بدون جوازات سفر ويعملون في المكان الذي يجدونه ملائماً لهم. وهكذا كنا نسمع بشار بن برد في القرن الثامن يقول: وإذا خشيت تعذراً في بلدة فأشدد يديك بعاجل الترحال.
كان يعرف انه يستطيع العيش بمدينة أخرى. وكان الشاعر “الحريري” في القرن الثاني عشر يقول: وجب البلاد فأيها أرضاك فأختره وطن.
وهكذا كانت الدولة الإسلامية سابقاً تمتد من بعض أجزاء الصين وحتى الأندلس، فكان للخطاط مجالات عمل واسعة، وتمكن من إبداع أساليب عديدة في الخط. أما اليوم فلم يعد التنقل سهلاً بين الدول العربية.
ويمكن تصوّر هذا المناخ الايجابي، في زمن الدولة الإسلامية المتعددة القوميات، والذي كان يشمل كل مجالات الإبداع. فالشعراء في كل مكان، والموسيقيون في القصور، والمعماريون في المدينة…
وكمثال على ذلك: فان الفيلسوف “الغزالي” ولد في إيران، وعمل أستاذاً في المدرسة النظامية ببغداد. و “زرياب” البغدادي فتح أكبر مدرسة للموسيقى في الأندلس يتعلم فيها حتى أبناء الأوربيين. و”ياقوت” أكبر خطاطي بغداد في القرن الثالث عشر ولد في أوربا وتبناه الخليفة “المستعصمي”.
كان الخليفة “المأمون” يطلب من الخطاطين أن يستنسخوا نموذجاً لكل كتاب موجود في عصره حتى لو كان بلغة أخرى ليترجم ويُخط، وهكذا تنشط ذاكرة الإنسان ويتطور المجتمع. وهذا بالضبط ما يحدث الآن في الدول الصناعية الكبرى. بينما في العصر الحالي عندما نرغب بشراء كتاب من مكتبة عربية تصيبنا الدهشة لقلة الكتب.
في عصرنا الحالي لم تعد الدولة توجه الخط، كما حصل سابقاً؛ مما أعطى الخطاط الحرية الكاملة في عمل خطوطه. لكننا نلحظ قلة المعارض، وقلة الاهتمام بالخط إن لم نقل الإهمال الكامل بعمل الخطاط وجميع الفنون التشكيلية. هذا الإهمال يسبب للخطاط مشاكل اقتصادية تدفعه إلى ممارسة العمل التجاري إلى جانب عمله الفني، و تجبره على تقليص وقت البحث والتجديد الذي هو ضرورة ملحة كيلا نتراجع إلى الخلف.
كان الكثير من هواة الفن والأثرياء في الزمن الماضي يقتنون الخطوط بأسعار مرتفعة مما يوفر الوقت للخطاط للبحث والتدريب. قال أحد الخطاطين القدماء: “عندما أخط وأبيع نسخة من كتاب “المجسطي” (وهو كتاب علمي مترجم عن اللغة الإغريقية) يكفيني هذا المورد أن أعيش لمدة سنة”.
كما كان هناك التشجيع الواسع من الشخصيات العليا في الدولة؛ يقال أن السلطان “مصطفى الثاني” كان ينظر بإعجاب إلى الخطاط “الحافظ عثمان” في القرن السابع عشر وهو يخط، ويقول له:
“هل سيأتي يوم يا حافظ لكي يوجد خطاط مثلك.” فأجابه “الحافظ عثمان”: “نعم سيكون هنالك خطاط مثلي لو يأتي سلطان مثلك يمسك المحبرة لخطاطه المفضل “
لا يجد الأطفال والهواة اليوم إمكانية تعلم الخط بسهولة، وفي أغلب الأحيان على من يريد تعلم الخط الاعتماد على نفسه في البحث، وتقليد الخطوط المطبوعة. وكم هو تبذير للوقت أن يحاول الشخص التعلم وحيداً لفن كهذا. إن التمرين على الخط والتوصل إلى إتقان بضعة أساليب يتطلب سنين من العمل ويصعب تحقيق ذلك بشكل فردي. إذ لابد للخطاط المبتدئ من فهم وهضم تركة الماضي من الخطوط والتكوينات، ومعرفة أين تكمن جمالياتها، أضف إلى ذلك التمرين المستمر الذي سيساعده على إدراك ماهية وجوهر الجمال في هذا التعبير الفني. كذلك لابد من إضافة الجديد بالاستلهام من أشكال وعناصر الطبيعة كالأرض والنار والهواء والماء، وكذلك من الهندسة المخفية خلف أشكال الأزهار مثلاً، أو التأمل في أشكال كثبان الرمل والغيوم في السماء. كل هذا سيكون صعباً جداً في عالم مادي يبحث عن المنفعة المباشرة قبل كل شيء.
لقد تأثرت التكوينات الخطية سابقاً بشكل المعالم المعمارية، فقد كان المعماري يعمل مع الخطاط لوضع الخطوط على الجدران. وبهذا تعلم الخطاط كثيراً من المعماري في هندسته للأشكال، وكيفية احتلال الفضاء، والصعود عالياً بالحروف مع مراعاة قانون الجاذبية، فأنتج الخطاط تكوينات للمكان المطلوب على الجدران المطلوبة بحيث تشغل المساحة المخصصة بالضبط. وأذكر من الخطاطين الذين عملوا مع المعماريين الخطاط “راقم” الذي كان له جرأة كبيرة في كسر العبارة (وُلد “مصطفى راقم” في عام (1757) وتوفى عام (1826) وترك لنا الكثير من التكوينات التي تتميز بالأناقة والكمال. وكان العثمانيون يقولون عنه: “إذا كان الغرب يفتخر “بمايكل انجـيلو” فنحن نفتخر بالخطاط “راقم”.)، وإعادة تركيبها حسب تخيلاته. ومن تكويناته المشهورة لوحة ” لا حول ولا قوة إلا بالله” المحفوظة بمتحف “طوب كبي” “باسطنبول”.
حيث وضع في وسط هذا التكوين اللاءات الثلاثة المتباعدة في العبارة وجعلها متلاصقة معاً، وكتب ألف ولام على اليمين وألف وباء على اليسار، ولما كانت العبارة فيها ألف واحدة فقط، بينما تكوينه احتاج إلى اثنين، لذلك أضاف عبارة (العلي العظيم) في الأعلى، وخطها بشكل صغير جداً، واقترض منها ألِفاً ليستعملها في تكوينه للحروف الكبيرة.
وقد جعل “راقم” الحروف المدورة تدخل إحداها ببطن الأخرى، ولم يتردد بتصغير الحروف (واو وقو) حتى تدخل بسهولة في التكوين. ثم وضع النقاط الأربعة الموجود في العبارة سوية في أعلى اللاءات ووضع اسم الجلالة (الله) في الأعلى.
إن ما يدهش في هذا التكوين هو اتساع مخيلة “راقم” في عدد المرات التي يتدخل فيها كي يغير مكان الحروف ويصغرها. ويضيف حرفاً من اجل بناء تكوين جديد ومتناغم يخضع لهندسية بسيطة وقوية.
ترك لنا الخطاطون القدماء الكثير من التكوينات في المعالم المعمارية وعلى الورق. ففي حدائق قصر الحمراء خط صغير كُتبتْ فيه عبارة هي شعار بني عبّاد: (لا غالب إلا الله) حيث أضاف الخطاط أعلى امتداد للحروف وزخارف تشابه الحروف الكوفية بما يعادل ثلاث أضعاف حجم العبارة، أي أن ربع المساحة في الأسفل كان كافياً لخط العبارة، أما بقية المساحة فقط استغلها في الإضافات العلية لمعادلة تكوينه، وللتمتع بحرية الإبداع. فكانت المساحات الإضافية هي ملكه الخاص يتصرف بها كما يحب، وكما يريد، حيث خطت العبارة بأسلوب كوفي معروف لكن كل ما رسمه في الأعلى كان من إبداعه الشخصي.
ترتفع الألفات واللامات بخطوط رهيفة في خط الحجر المحفور في حدائق قصر غرناطة، والتي لا نلبث أن نرى هذه الرهافة حولنا في القصر نفسه، فالأعمدة الرخامية في قصر الحمراء رفيعة رشيقة، وهنا يأتي السؤال: من تأثر بمن؟ هل تأثر المعماري بالخطاط، أم العكس؟ إن هذا التأثير المتبادل يمكن تصوره في أشياء متعددة مابين الفن والحياة. الفن هو انعكاس لحركة المجتمع يتأثر به ويؤثر عليه.
خلاصة:
الإبداع والابتكار يتم في أجواء من التشجيع، فهناك تأثير متبادل بين الخطاط والمجتمع، فإذا وجد الاحترام والتقدير برزت الفنون لتلعب دورها الفعال. وان كان هناك الإهمال فسوف تضمحل الفنون ويفقد المجتمع علاماته الجمالية، ويبقى المجتمع مقلداً. الفن هو تكثيف للطاقات التي تغذي من ينظر إليها، كما أن الجمال الفني يتحول في عيون المشاهد إلى طاقة إيجابية.
ومن هنا نطرح السؤال التالي: هل يمكن أن يستمر مظهر الخط كما كان في عصر الحصان والجمل، ونحن الآن في عصر الطيران؟