ينفرد فن الخط انفراداً يميزه عن سواه من الفنون الإسلامية الأخرى؛ فهو بصورته التي عرفها المسلمون فن أصيل اختصوا به، إذ لم يكن في تراث الشعوب التي دخلت الإسلام أو البلاد التي انتشر فيها فن يناظره.أضف إلى ذلك أن الخط وإن كان أساسه الحرف العربي بما يمتلك من إمكانيات جمالية؛ إلاّ أنه تطوّر من الصورة البسيطة التي كانت عليها الكتابة العربية في صدر الإسلام إلى ما صارت إليه فيما بعد من الغنى بالقيم الجمالية واللمحات الإبداعية.
وقد جاء هذا التطور نتيجة لاستخدام الشعوب الإسلامية له، ثم مساهمة العبقريات الفنية من مختلف الشعوب في إثراء ذلك التراث المشترك، كما هو الحال في التراث الإٍسلامي العام بشتى علومه وفنونه، وهذا بالتالي يجعلنا ننعت فن الخط بأنه فن إسلامي. فهي صفة أجدر وأوضح وأدق من أية صفة أخرى قد تضيق معانيها عن استيعاب فنٍ ساهمت فيه كافة الشعوب الإسلامية.
وعندما يتأمل الإنسان مظاهر الإبداع الأدائي المتنوعة في تاريخ الحضارة الإسلامية على مر العصور، وعلى امتداد بلاد المسلمين، يرى في الآذان، والخط معلمين أساسين يدلاّن أينما ذهبنا على الإسلام.ويتميزان باستقلالهما عن معالمه الأخرى، رغم ما قد نلحظه فيهما لأول وهلة من غياب الطابع القومي، فالآذان واحد وإن اختلفت حناجر المؤذنين في الترنّم به بأداءات متنوعة من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب؛ فهو شعار ثابت ودليل قاطع على وجود المسلمين.
والأمر كذلك بالنسبة لفن الخط، فهو معلم بارز ثانِ من معالم الإبداع الفني عند المسلمين، يستخدمه العرب المشارقة والمغاربة وأهل الأندلس، كما يستخدمه الأتراك والأكراد والفرس والهنود وأهل الملايو والأفارقة وغيرهم.
والكتابة العربية ليست رموزاً ومواصفات فنية وحسب، ولكنها إلى جانب ذلك منهج فكر وطريقة نظر، وأسلوب يصور رواية متكاملة تمدّها خبرة حضارية متفردة، وبروزها تكوين نفسي مميز، فالذي يتكلم لغة ما، يفكر بها؛ فهي تحمل في كيانها تجارب أهلها وخبرتهم وحكمتهم وبصيرتهم وفلسفتهم في الحياة، وهي وسيلة تفكير كما هي وسيلة تعبير.
وللكتابة العربية وحروفها ميزة جمالية تجلّت فيها عبقرية الفنان المسلم في المزاوجة بين الشكل والمعنى والخيال، تعود إلى طبيعتها القوية والمرنة في آن وما تحمله من قابلية على المد والاستمداد والرجع والاستدارات التي تكسب الكتابة جمالاً وحياة وبهجة.
واللغة العربية هُيئت لتكون لغة عالمية، فخرجت على الناس في صورتها الحضارية وهي تحمل في ذاتها حجة انتشارها ووثيقة خلودها؛ ذلك أنها مستودع كلام الله، القرآن الكريم، كتاب الإسلام الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والذي يتعبد المسلم بتلاوته.وهكذا تنفرد اللغة العربية بين اللغات القومية بأنها لغة كل مسلم في كل زمان ومكان.
ومع أن الكتابة أصلاً هي لنقل الأفكار، فإن الخط الجميل قد استفاد من هذه الأفكار عندما تكون قدسية فيتشرف بها، وعندما تكون هذه الأفكار رسمية فإن الخط الجميل يضفي عليها جلال السلطة وهيبتها، أما إذا كانت الكلمة فقرة في قصيدة شعرية فإنه يتآخى جمال النظم مع جمال الخط، ويتآزرا ليقدما لوحة فنية متكاملة.وقد لا يكون للكلمة قصد هام، عندها يبقى الخط سيّد الموقف لينفرد بالتعبير عن موقف إبداعي صرف.
والخط فوق ذلك لمسة فاعلة من السحر تضفي على الأشياء قيمة فنية عالية تفوق قيمتها الوظيفية والمادية، فحينما نراه على الخشب أو المعادن يتحوّل الأمر من مجرد إنتاج عادي إلى إنتاج فنّي، تتضاعف قيمته أضعافاً مضاعفة.
والخط الحسن كالصوت الحسن يزيد في الحسن وضوحاً.وقال “القلقشندي” في الموازنة بين الخط واللفظ أنهما يتقاسمان فضيلة البيان ويشتركان فيها من حيث أن الخط دال على اللفظ والألفاظ دالة على الأفكار ولاشتراك الخط واللفظ في هذه الميزة وقع التناسب بينهما في كثير من أحوالهما، وذلك لأنهما يعبّران عن المعاني.إلاّ أن اللفظ معنى متحرك والخط معنى ساكن، وهو إن كان ساكناً فإنه يفعل فعل المتحرك بإيصاله كل ما تضمنه إلى الأفهام، وهو مستقر في حيزه قائم في مكانه.
كما أن اللفظ فيه العذب الرقيق السّائغ في الأسماع، كذلك الخط فيه الرائق المستحسن الأشكال والصور.فقد نقل عن خليفة رسول الله، “عمر بن الخطاب” -رضي الله عنه- قوله: “إنّ الرجل ليكلمني في الحاجة فأردوه عنها وكأني أقضم حبَّ الرمّان الحامض، لبغض استماع اللحن، ويكلمني آخر في الحاجة لا يستوجبها فيعرب، فأجيبه إليها التذاذاً لما أسمع من كلامه.”
وردّ الوالي “عبد الله بن طاهر” مظلمة أحدهم لأنها لم تستكمل نفسها في خط جميل وكتب: “أردنا قبول عذرك فقطعنا ودفعه ما قابلنا من قبح خطَّك، ولو كنت صادقاً في اعتذارك لساعدتك حركة يدك، أو ما علمت أن حُسن الخط يناضل عن صاحبه ويوضحّ الحجة ويمكنه من درك الغاية.”
والإمام الشيخ “محمد عبده” يقول: “إذا كان الرسمُ ضرباً من الشعر الذي يُرى و لا يُسمع، و الشعرُ ضرباً من الرسم الذي يُسمع و لا يُرى، فإنّ الخط وسيلتهُ اليدُ الشاعرة التي تَسمع و تَرى.”
من هذه الشواهد يتضح لنا أن الأقلام نظام للإفهام، وكما أن اللسان بريد القلب فالقلم بريد اللسان، ويولد الحروف المسموعة عن اللسان كتولد الحروف المكتوبة عن القلم، والقلم بريد القلب ورسوله وترجمانه ولسانه الصامت.
وقالوا أن القلم أحد اللسانين، وهو المخاطب للعيون بسرائر القلوب، على لغات مختلفة من معانٍ مقصودة بحروف معلومة، مؤلفة مسموعة، ولا ألسن محدودة، ولا حركات ظاهرة، خلا قلم حرف باريه قطته ليتعلق المداد به، وأرهف جانبيه ليردّ ما انتشر عنه إليه، وشق رأسه ليحتبس المداد به، فهنالك استمد القلم بشقه ونثر في القرطاس بخطه حروفاً أحكمها التفكير، وجرى على أسئلته الكلام الذي سداه العقل، فلفظته الشفاهـ ودعته الأسماع من أنحاء شتّى من صفاتٍ وأسماء.
ويؤكد الشاعر الفنان الأمير “خالد الفيصل” أن أوّل ما يميز مسيرة الحرف العربي أنها رحلة وجدانية يستشعر المتتبع لها دفء الوجدان، وتوهج الرسالة، وصدق الانتماء، فالحروف ليست قطعاً جامدة، ولكنها كائنات حيّة تنبض بمشاعر الفنان المسلم، وتعكس إصداره وتفانيه لتحقيق أعلى درجات الإتقان والإحسان، فالحروف لابد أن ترتقي إلى مستوى التعبير عن الرسالة.رسالة الخلاّق البديع إلى الناس أجمعين.
ويقول الأمير فيصل بن فهد (الرئيس السابق للجنة الدولية للحفاظ على التراث الحضاري الإسلامي): “ونحن نتابع مسيرة الاهتمام بقضية الخط يهمنا أن نوضّح؛ أنه ممّا يشغل بالنا هذه الأيام ما نشاهده من تطور خطير في صناعة الآلات الكاتبة والحاسبات الآلية، وما تتجه إليه الشركات المعنية بتلك الصناعة من التركيز على تطويع الحرف العربي لمتطلبات الآلة، ولو اقتضى الأمر أن يبتعد الحرف العربي عن النسب الجمالية التي اجتهد أجدادنا في ترسيخها، وواجبنا في هذه المرحلة أن نضع هذه المتغيرات في حساباتنا، وألاّ نسمح بتدهور جماليات هذا الخط، تلك الجماليات التي ميّزته عن سائر خطوط لغات العالم، ونرى من واجبنا أن نولي هذا الموضوع كل عناية ممكنة، أن نوجّه أنظار مهندسينا وخطاطينا وفنانينا نحو بذل أقصى الجهد لهذا الموضوع.”
وإن اللجنة الدّولية للحفاظ على التراث الحضاري الإسلامي، التي كان يرأسها -رحمه الله-، والتي انطلقت من منظمة المؤتمر الإسلامي، فأنشأت مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية بإستانبول، ترعاها المملكة العربية السعودية، وتقيم دعائمها لها الشأن الكبير والعطاء اللا محدود في نهضة فن الخط في هذا العصر، حيث واكبت اللجنة باستمرار وعبر مسابقات دولية عالمية أن تحرص على إعطاء الصورة الحقيقية لهذا الفن الخالد.
وقد سبق للجنة أن نظمت المسابقة الأولى باسم الخطاط الراحل “حامد الآمدي” عام 1986م، حيث رأت أن ربط المسابقات القادمة بأسماء كبار الخطاطين المبدعين؛ يحث المتسابقين على اقتفاء آثارهم، وتخليد ذكراهم، والتمسك بنهجهم القديم من حيث الصدق والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
لقد أخبرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن الجميل هو من أسماء الله عز وجل، ففي الحديث الشريف: “إن الله جميل يحب الجمال”.فالمسلم إذن مدعوّ إلى الاتّصاف بالجمال الذي هو البهاء والحسن في الفعل، وفي الخلق، وإلى تنمية إحساسه بالجمال الذي أودعه الله سبحانه في الكون، جمال الصور وجمال المعاني على حد سواء
المراجع:
– فن الخط، مصطفى أغور درمان، مركز الأبحاث، استانبول.
– الخط العربي من خلال المخطوطات.
– الخط العربي، عفيف البهنسي، دار الفكر، دمشق.
– العقد الفريد، ج3، لابن عبد ربه الأندلسي.
– الخط العربي بين الفن والتاريخ، محمود حلمي، المجلد 13، العدد 4، سنة 1983، مجلة عالم الفكر، الكويت.
– الإسلام والفنون الجميلة، د.محمد عمارة، دار الشروق، بيروت.
– كتالوج المسابقة الدولية الثانية لفن الخط، استانبول.
– الأضداد، ابن الأنباري، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، المكتبة العصرية، صيدا، لبنان.