التكوين والتركيب من الخصائص المهمة في الخط العربي، فالتكوين هو القابلية الواسعة على التشكيل والتنويع والإبداع. أما التركيب فيُعرف على أنه تراكب الحروف أو الكلمات بعضها فوق بعض، أو تداخلها وتشابكها من أجل الوصول إلى ما يسمى (النقوش الكتابية).
ومن أنواع التركيب: التراكيب الأيقونية (التشخيصية)؛ حيث تتخذ أشكالا متنوعة قد تكون صوراً آدمية أو نباتية أو حيوانية، أو تعكس في بعض الأحيان دلالات المضمون في شكل تركيبي مبتكر. وقد تنوع ظهور هذه التراكيب لتعذر التصوير في الدين الإسلامي فنتج عن ذلك ظهور نصوص كتابية ذات أهداف إعلامية.
ودعونا نأخذ عينة من هذه التراكيب؛ وهي لوحة لخطاط عربي معروف يتميز بخيال فني واسع في تنفيذ لوحاته؛ إنه: الخطاط سعيد النهري ولوحته الرائعة “الحصان”.
تتضمن اللوحة تركيبة أيقونية يوحي شكلها رأس الحصان. ويحتوي الشكل نص الآية رقم 60 من سورة الأنفال: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم).
تبدأ قراءة النص من كلمة (واعدوا)؛ حيث تركت دون تشابك مع كلمات الآية مما حقق سبباً في استدراج المتلقي في تتبع قراءة النص. وذلك عن طريق حرص الخطاط على المحافظة على النسق التتابعي للتركيب.
وعند تحليل هذا التراكب، يمكننا أن ندرج بعض النقاط التي أخذت بنظر الاعتبار في توظيف خصائص خط الجلي الديواني لتحقيق التركيبة الأيقونية:
1- تصرف الخطاط بحرية في اجتهاده بمد حرف (اللام) من كلمة (لهم)، وحرف (السين) من كلمة (استطعتم)، (والتاء) من كلمة (قوة)، وحرف (الميم) من كلمة (عدوكم). والتي عدت من خواص الجلي الديواني للمرونة والمطاوعة والمد، واستثمارها في تحقيق الإغلاق الشكلي واستحداث شكل رأس الحصان للهيئة العامة.
2- توظيـــف التداخل والتشــــابك والتراكــب والتقاطع في آن واحد داخل بنية خطية مغلقة بشكل محدود؛ مما ســبب التأثير في القيمــة الجمالية للحروف كما في حرف (الخاء) في كلمة (الخيل)،وحرفي (الهاء والواو) في كلمة (ترهبون).
3- وظف الخطاط العلامات الإعرابية والتزينية لملء الفراغات ما بين الكلمات.
أما من حيث تحليل التراكب وفق المقومات البنائية للشكل. استند الخطاط على نظام تعدد مستويات الكتابة الخطية والذي تسلسل من أسفل اليمين من كلمة (وأعدوا) عند رقبة رأس الحصان، ثم صعودا لينتهي بكلمة (وعدوكم) عند فم الحصان. والملاحظ أن كلمة (استطعتم) اشتركت بثلاثة مستويات وكلمة (لهم) بمستويين.
التقلبات الإيقاعية في التركيب خلقت لنا حركة يتبناها الجانب الجمالي للنص، وذلك من الصعود والنزول المتسلسل لمقرؤية النص مما يثير انتباه المتلقي بشدة يجعله متلهفاً للمكتوب، ويُحفز عقله بالتفكير بالمتبقي من دون الشعور بالملل حتى لو اطلع عليها مرات عدة. ( المخطط (1) يوضح الحركة الخفية داخل الشكل).
كما استثمر الخطاط العلامات الإعرابية والتزينية لملء الفضاءات الداخلية في التركيب. فضلاً عن توظيف خاصية تنصيل الحروف في مدات مستحسنة في الحروف المتصلة كما في حرف (اللام) في (لهم) و(السين) في (استطعتم) بشكل فني مدروس لإظهار الشكل العام للأيقونة. عول الخطاط على موضوع تطابق الشكل مع المضمون. إذ إن الشكل يمثل هيئة رأس الحصان والمضمون آية تحث المسلمين على أهمية إعداد الخيل لقتال المشركين.
نستخلص مما تقدم ما يأتي:
1- تُطلعنا اللوحة على طريقة تصميم الخطاط لأحد أنواع التراكيب الأيقونية، ودراسة الأسس الأولية في ترتيب مستويات الكتابة فيها، وكيفية تحقيق المحيط الكفافي عبر حروف الكتلة الخطية من دون الحاجة إلى العلامات الإعرابية أو التزينية في شغل الفضاءات الخارجيـة لتحقيــق الإغــلاق الشكلي للأيقونة.
2- التأكيد على إمكانية حروف الجلي الديواني باستقبالها المدات ومطاوعتها على الرغم من خروجه من القاعدة الخطية؛ وذلك بغية حرية الخطاط من دون تقيد بمسارات محدودة وحسب الضرورة التصميمية.
3- توليف الخطاط ما بين شكل رأس الحصان والآية القرآنية.
4- عُدت اللوحة أحد أهم خصائص الجلي الديواني بقابليته في التكوين للأشكال الأيقونية وابتكاره للهيئات الجديدة وذلك حسب ما تتطلبه الضرورة التصميمية.