ضمن سلسلة كتاب أفروديت، صدر عن المطبعة الوطنية بمراكش كتاب: الخط المغربي المبسوط والمجوهر لمؤلفه محمد البندوري، يتصدى الكتاب لقواعد الخط المغربي المبسوط والمجوهر، حيث سلط الضوء على الأقلام المغربية بكل أشكالها وخصوصياتها، وفصل كثيرا في قواعد الخط المغربي المبسوط والمجوهر وأشكاله، وقد تضمن الكتاب رسم الحروف ومقاييسها وصورها والكيفية التي يتم بها تخطيط الحروف من الألف إلى الياء، سواء في حالة الإفراد أو الاتصال. وخلص في آخر الكتاب إلى تقديم بعض نماذج من الخطوط المغربية الخمسة.
وقد أورد محمد البندوري حول هذه المبادرة الفريدة والأولى في العالم العربي التي تقعد للخط المغربي بشكل دقيق ومفصل، أنها تأتي لإعطاء هذا الخط كل ما يستحقه من العناية، خصوصا وأنه يتسم بصور وأشكال جمالية مخالفة تماما لما عليه الحروف المشرقية، كما أن جمالياته اخترقت كل المجالات وغيرت بلاغة المكتوب، وصنعت دلالات جديدة سواء في النصوص الشعرية أو النثرية. إن غنى الخط المغربي يضرب بجذوره في أعماق الحضارة المغربية، وإن المجال الثقافي المغربي قد أفرز ثلة من الخطاطين المجيدين للخط المغربي، وبعض الهواة الذين كانت لهم إسهامات في عملية تجويد الخط المغربي بمختلف فروعه. إلا أن عملية التقعيد والضبط والتقييد، ظلت حبيسة المجال النظري ولم يدفع بها الوعي النقدي إلى مجال التطبيق والممارسة الحقة.
وقد قال الأستاذ محمد البندوري في تقديمه للكتاب:
إذا كانت اللغة العربية قد نالت شرفا وقدسية باحتوائها لأجل كلام في الكون وهو كلام الله، فإن الخط العربي قد نال أيضا هذه المنزلة الفضلى والشرف العظيم، إذ به كتبت الآيات الكريمة ودونت الأحاديث النبوية والسير ونسخت به أمهات الكتب الأدبية والنقدية، ولولاه لضاع الكثير من العلم.
وقد سعى كل خطاطي الأمة العربية والإسلامية في تجويد الخط العربي وتطويره ووضع قواعده وفق ما تتطلبه كل مرحلة ليرقى إلى أعلى مرتبة شرفية.
إن صناعة الخط الحسن تتطلب الإلمام بالقواعد والأصول التي تنبني عليها أشكال وصور الحروف، ولا شك أن الخطوط المشرقية قد نالت حظها الأوفر من الضبط والتقييد ببسط قواعد سار عليها الكتاب عبر الأزمنة التاريخية الماضية، منذ عهد ابن مقلة ومرورا بابن البواب وياقوت المستعصمي ووصولا إلى خطاطي العهد الحديث. بأبعاد ومساحات وفق مقاييس هندسية تتخذ من الخط قاعدة فنية لها أسسها وضوابطها وقوانينها ولها مقوماتها الجمالية. غير أن الخط المغربي لم يحظ بهذه الأهمية، ولم ينل حظه من التقعيد والتقييد والضبط، بالرغم من تفرعه إلى أنواع متعددة وأشكال مختلفة، وبالرغم أيضا من بروز جمالياته اللامتناهية، وكذلك من إبداعيته وقيمه الجمالية التي تزكيها كل المجالات التي احتضنته عبر الحقب التاريخية من قماش ونحاس وخشب وزجاج وعمارة ومخطوطات وكتب ولوحات فنية، وذلك لتناسبه مع مختلف الأشكال، ولمطاوعة حروفه لكل المجالات الحرفية والفنية وغيرها. وللإشارة فإن الخط المغربي يمتلك دلالات كثيرة منها ما يرتبط بالثقافة الحروفية المغربية، ومنها ما يتعلق بالطابع الديني والروحي والوجداني، ومنها ما يتصل بالبعد الحسابي فضلا عن القيمة الفنية والجمالية والتعبيرية. كل ذلك وغيره أكسب الخط المغربي مكانة عالية.
وتجدر الإشارة إلى أن الخط المغربي بجماليته قد دخل في المنظومة التربوية المغربية من الباب الواسع، لارتباطه بالمواد ذات البعد التربوي القيمي والديني والفني كمادة التربية الإسلامية والقرآن الكريم، أو من خلال بعض النصوص في القراءة أو في مادة التربية الفنية وغيرها. ويعد هذا الأمر مكسبا جميلا في النسيج التربوي التعليمي المغربي، إلا أنه بالرغم من ذلك فإن هناك بعض الصعوبات التي تعترض المتعلمين أثناء التعامل مع تلك النصوص لأنهم ألفوا القراءة والكتابة بخط النسخ ليس غير، وحين يجدون أنفسهم أمام نصوص بالخط المغربي خصوصا عندما يتعلق الأمر بالآيات القرآنية فإنهم يجدون صعوبة في قراءتها وكتابتها والإجابة عن الأسئلة المرتبطة بها وذلك لسببين اثنين:
يتعلق الأول بعدم معرفة المتعلمين بأشكال الرسم العثماني، بينما يتعلق الثاني بعدم معرفة صور حروف الخط المغربي المبسوط تحديدا.
وتكمن أهمية الخط المغربي في المنظومة التربوية في ارتباطه بمجال القراءة في علاقتها بمادة التربية الإسلامية والقرآن الكريم، ومختارات نصية تحتوي على آيات قرآنية في كتاب القراءة وأيضا في مادة التربية الفنية، فهو الذي يحفظ للتلميذ كل ما تلقاه في هذه المواد من معارف، لكن ذلك لا يتأتى له ولا يصل إليه إلا بتيسير فهم المقروء بالنسبة للتلميذ ولمعلميه، وهذا يتوقف أساسا على معرفة حروف الخط المغربي والتعرف على تقنياته وقواعده وأشكاله.
ولهذا وغيره، تأتي هذه المبادرة لإعطاء هذا الخط كل ما يستحقه من العناية، خصوصا وأنه يتسم بصور وأشكال جمالية مخالفة تماما لما عليه الحروف المشرقية، كما أن جمالياته اخترقت كل المجالات وغيرت بلاغة المكتوب، وصنعت دلالات جديدة سواء في النصوص الشعرية أو النثرية.إن غنى الخط المغربي يضرب بجذوره في أعماق الحضارة المغربية، وإن المجال الثقافي المغربي قد أفرز ثلة من الخطاطين المجيدين للخط المغربي، وبعض الهواة الذين كانت لهم إسهامات في عملية تجويد الخط المغربي بمختلف فروعه. إلا أن عملية التقعيد والضبط والتقييد ظلت حبيسة المجال النظري ولم يدفع بها الوعي النقدي إلى مجال التطبيق والممارسة الحقة.
وفي نطاق نقدي وموضوعي، وبالنظر لعدد أنواع الخطوط المغربية، وقياسا بجمالياتها المتعددة، وأساليبها المتنوعة، فإن التفاعل معها هو تفاعل مع موروث حضاري مغربي لا يوجد نظيره في العالم جماليا وفنيا وثقافيا. وإن مكانة هذا الخط السامية بما تستوجبه المرحلة من ضرورة التقعيد والضبط في نطاق يتناسب مع مقوماته التاريخية والحضارية والثقافية، لتفتح الطريق إلى المزيد من المعرفة بمكنوناته، وأيضا إلى المزيد من التعمق في الأبحاث العلمية المرتبطة به.
لقد تسامى الفنان المغربي بروحه وطور بسليقته أساليب هذا الخط ليضحى خاصية مغربية أخذته العديد من الجهات في متاحفها الوطنية ووظفه آخرون في المجال الجمالي والتزييني فسما بذلك إلى درجة التعبير عن الشخصية والثقافة المغربيتين.
وبالإضافة إلى الدور الجمالي للخط المغربي الذي أبهر كل الباحثين والمتتبعين في العالم، فإنه استخدم لغايات وأغراض متنوعة انسجاما مع تنوعه وتعدده، فمنه ما استخدم لكتابة الآيات القرآنية الكريمة و منه ما استعمل في نسخ الكتب وهناك الذي استعمل في كتابات العقود والمواثيق، ومن هذه الخطوط المغربية:
1- الخط المغربي المبسوط الذي اتخذ صبغة القدسية لأنه يمارس دورا قدسيا من خلال تخصيصه لكتابة المصاحف، وذلك لوضوحه وجمالياته التي تتخذ من انحناءات حروفه واسترسالاتها وتدويراتها قاعدة تجعل المتلقي يدخل في صمت ومهابة، وتسافر به إلى عالم التأمل في كلام الخالق انطلاقا من رمزيتها الدالة على العديد من الخبايا والأسرار التي لا يحيط بها إلا خاصة العلم والمعرفة الحقة.
2- الخط المغربي المجوهر، وهو خط دقيق وسلس يستعمل في الكتابات السريعة والمستنسخات وتدون به الكتب، وتكتب به المراسلات والوثائق السياسية والظهائر السلطانية. ومقاييس حروفه أقل حجما من المبسوط وبعضها مطموس وهي العين والغين إذا وقعتا في وسط الكلمة، والفاء والقاف والواو والميم. وهي سمة تميز هذا الخط وتزيده رونقا وعذوبة.
3- الخط المغربي المسند (الزمامي) أو كما يسميه بعضهم (خط العدول أو خط الطلبة بتسكين اللام ) وهو خط يتميز بالسلاسة والسرعة، ويستعمل في كتابات عقود البيوع والشراء والمواثيق والعهود وكل ما يتصل بالوثائق العدلية وفي كل أنواع المعاملات اليومية والتقاييد الشخصية نظرا لسرعته، سطوره متقاربة فيما بينها، وتتسم حروفه بصغر حجمها وبكثرة الإمالات وبالتشابك والاختزالات حتى تصل إلى حد الطلسمية أحيانا، مما يصعب قراءته على عامة الناس ولا يستطيع قراءته إلا خاصتهم.
4- خط الثلث المغربي تتميز حروفه بالانسيابية وبالليونة والتناسق ويوصف بالجمال لرونقه وشكله العذب، ويستعمل في كتابات عناوين الكتب وبعض المراسلات، وأيضا في المعمار المغربي كعنصر جمالي يهدف إلى تزيين جدران المساجد والقصور وكذلك في لوحات التحبيس وشواهد بعض القبور.
5- الخط الكوفي المغربي وهو خط سميك وحاد الزوايا وهو مشتق من الخط الكوفي المشرقي، استعمل في كتابة المصاحف والمراسلات الخاصة.
إن نظرة ثاقبة لحروفية الخط المغربي سواء في سياقها الجمالي المتعدد أو التعبيري والدلالي وفي تنوعه الإبداعي عامة إنما هو كيان حضاري ثقافي تناغم مع الخصوصية المغربية في كل المجالات. إلا أن هذا لا ينفي كونه جزءا من الكيان الحضاري العربي والإسلامي، باعتبار أن كل قطر عربي وإسلامي قد تخصص في خط معين يتلاءم وخصوصياته التي تلائم عوائده وطبائعه وقيمه الفنية وأساليبه في الكتابة. فكما ظهر الخط الكوفي في الجزيرة العربية والثلث والفارسي في إيران والديواني والرقعة في تركيا والقيرواني في تونس والأندلسي في الأندلس إلى غير ذلك من المناطق التي اختلف فيها الخط الواحد بين شرقها وغربها تبعا لتلك الخصوصيات. وعلى سبيل الذكر لا الحصر فالخط الكوفي قد تفرع الى أشكال وأنواع وأنماط وتشكيلات وأساليب.. حسب اختلاف المناطق وحسب الظروف الاقتصادية والسياسية والثقافية التي عاشها العالم الإسلامي وحسب تطور عجلة الزمن. كما أن الخط الأندلسي في شرق الأندلس يختلف عن غربها..
وبالتمعن في الخط المغربي والنظر إلى مكنوناته بعين فاحصة، فإنه يختزن قاعدة ثقافية وفنية واجتماعية وأخلاقية لها تأثير واسع على كل المناحي وهو وعاء للعديد من الموروثات والتقاليد، ووعاء أيضا لما سكبه ويسكبه المفكر والأديب والناقد والعالم والعارف والفنان والخطاط… من مشاعر وأحاسيس وهواجس وتقلبات نفسية من خلال بسط العملية الإبداعية عبر هذا الخط الذي تتسم أشكاله وصوره بخصائص وجدانية وروحية وجمالية وتشع حروفه بأنوار العلم والمعرفة مما يضفي عليها أنواعا من التألق تكشف عنه الحضارة المغربية العريقة…
إن التفاف الخط المغربي بالتراث المغربي يكسبه أهمية تاريخية وقد لازم الإنسان المغربي بأعراقه وعاداته وتقاليده وأيضا بإبداعاته وجمالياته وفنيته وكذلك بقيمته الحضارية، حتى أضحى مجد الحرف تعبيرا عن العبقرية المغربية الفذة التي سعت من خلال تطلعاتها إلى العزف على أوتار الجمال والتجويد والتطور اللامحدود، في إطار عوالم هذا الخط اللامتناهية سواء على مستوى العمق الدلالي والبلاغي الذي رافق تطور الخط المغربي وانسجامه مع كل المجالات الأدبية والنقدية، أو على مستوى المضامين الروحية المرتبطة بالقرآن الكريم والقيم الإسلامية الراقية، أو على مستوى الغوص في أطياف الألوان الزاهية التي حلي بها الخط المغربي على مر العصور. فقد استوعب كل التقنيات المغربية الخاصة وانسجم مع خصوصيات الذات المغربية وتفاعل مع كل البنيات والتصاميم وكل التشكيلات الحروفية ومع كل الأنماط الزخرفية المغربية وتنوعها وتفريعاتها وباختلاف عناصرها.ومع الأساليب الجمالية من تذهيب وتعتيق وتحوير وتحديق وتشكيل وتوليف.. وتعد هذه خاصية يتمتع بها هذا الخط، وهي ناتجة أساساً عن سلاسته ومطاوعته لكل الإبداعات التي لها ارتباط وعلاقة بالحرف.