القلم لسان البصر ومطية الفكر، وبالقلم تزف بنات النقول إلى خدور الكتب وقد قال العقابي “ببكاء الأقلام تضحك الصحف”، وقال ابن حماد “القلم للكاتب كالسيف للشجاع” وقال الضحاك بن عجلان “يا من تعاطى الكتابة أجمع عند ضربك بالقلم فإنما هو عقلك تظهره، والقلم من أجناس الأقلام كاللحن من أجناس الألحان”. فالكتابة وسيلة للتخاطب بين الناس والقلم وسيلة لحفظ التراث على مر العصور، وللتدوين فنون وللكتابة أفنان. وقد ورد ذكر القلم في كتاب الله الكريم حيث قال عز وجلّ: {ن. والقلم وما يسطرون}.
وما يجدر ذكره أن لشجرة الخطاطين التي تبدأ بعلى بن أبي طالب “كرم الله وجهه”، فالحسن البصري، تاريخاً واسعاً له أصوله وفروعه في بطون الكتب، وليس من السهل على أي باحث متعجل أن يقوم بتجميعها أو الربط بينها في نسق تاريخي متسلسل تام أو صحيح، والسبب -كما سيأتي الحديث- عدم توفر من كان يتتبع أخبار تطور الخطوط وأخبار الذين قاموا بالتطوير، أضف إلى ذلك قلة الكتّاب وضآلة عدد المعلمين، ولكن الاهتمامات الأخيرة من الشباب ستجدد -إن شاء الله- العهود المضيئة التي انتهت والآثار النفسية التي انقرضت بما سيترك لهم المناقب الجمة والذكرى الحسنة والأثر الطيب وسيكون للخط شأن يذكر وشهرة لا تعادلها شهرة، ولو أننا الآن في عصر طغت فيه الآلة على اليد البشرية التي تحقق الكثير من أساليب التفنن والإبداع فدثرت الآلاتُ المكنوناتِ النادرة التي أودعها الخالق جلّت قدرته في نفوس البشر، مما كان للآلة من المردود السيئ على الملكات والأفانين والمردود الحسن على سرعة الإنجاز واستغلال الوقت واستثمار الجهد فيما يعود بالنفع. والمُسلّم به أن لكل مدنية وتطور ضحايا، وتطور الإنسان في تصنيع الآلة واستخدامها أدى إلى قلة الخطاطين أو ندرتهم، والمجيدون من أولئك فئة لا تذكر.
والمتتبع لتاريخ الخط يجد -وللأسف الشديد- أن الذين كانوا يتابعون تطور الكتابة العربية منذ انطلاقاتها هم المستشرقون، ولهذا لا نجد غرابة فيما لو حصل بعض الدس والتشويه حول أصالة المصادر التي اعتمدت كمراجع في أصول الخط وما طرأ على طريقة كتابته منذ عرفت الخليقة الكتابة. ولهذا أيضاً فإنه تغيب عن الأذهان أسماء كثير من الخطوط وأشكالها والأشخاص الذين برعوا في إتقانها والذين طوروا قواعدها إلا من عهد استعملت فيه الكتابات الثمودية في نقوش يرجع تاريخها إلى عام 106م ، ثم عرفت الكتابات المعينية واللحيانية وفيها ما قد يصعب تفسيره على علماء أوروبا، ولذا فهم لم يفلحوا في حل كثير منها، وأول عهد في الكتابة لما قبل الإسلام كان يُسمى بالعهد السبائي. أما الكتابة الصفوية فقد عرفها المستشرقون وجعلوا نظام أبجديتها واتضح لهم أنها مركبة من ثمانية وعشرين حرفاً كما هي بالعربية وأصحابها هم العرب بلا ريب، ويرجع تاريخ بدء استعمال الخط النبطي عند ملوك العرب إلى سنة (270م)، ولما كانت آراء المستشرقين لا تخلو من الغلو والمخالفة لوجهات النظر العربية “الكلاسيكية” في نشوء الخط العربي ولأن تلك الآراء قد طغت على أفكار الكثير من الباحثين في تطور الخط العربي من العرب أنفسهم، وحيث إن المجال لا يتسع في هذه اللمحة الخاطفة لمناقشة هاتيك النظريات وتلك الآراء، فإنه يحسن بمن أراد التبصر في دراسة مثل هذه المواضيع مراجعة المصادر العلمية للوقوف على ما يقره العقل السليم ثم المقارنة والاستقراء النابع من صميم تاريخ الأمة العربية وتراثها الخالد على أضواء ما تظهره أيدي المنقبين في أنحاء الجزيرة العربية وما حولها في المستقبل إن شاء الله. ولعل ما ستكشفه لنا الأيام المقبلة في الآثار المطمورة سيقلب كل ما بني من نظريات إفرنجية رأساً على عقب، يبدل كل ما ورد في اعتقادات علماء الإفرنج أن الخط الفلاني أخذ عن خطوط ضاعت ولم يتبق سوى أسمائها أو هذه من خطوط تبددت آثارها ولا يُعرف عنها شيء!!
أعود لأؤكد أن الكتابة لازمت العصور القديمة الغابرة وامتدت حتى العصر الإسلامي منذ كتابة رسائل النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- وكتابة الوحي المنزل عليه، ثم لما فتح الله على المسلمين خرجت الكتابة العربية غازية مع الفتوح، وانتشرت في الأمصار وتسمت بأسماء الأقاليم مثل: “خط مغربي – كوفي – بصري- واسطي- حيري- معقلي – مصري – أنباري – قيرواني- قرطبي – شامي”. وقد كانت الكتابة في الصدر الأول من الإسلام على الرقاع وهي من الجلد، وعلى الكتف وهي العظام، وعلى الأقتاب وهي قتب البعير، وعلى اللخاف وهو الحجارة الرقيقة، وعلى العسيب وهو أضلاع جريد النخل وعلى رق الغزال، وعلى جلود الإبل البيضاء، وكانت تلكم الكتب توضع كمجلدات ضخمة من الجلود.
ولانتشار الكتابة في شبه الجزيرة العربية، فإن للحجازيين براعة في الخط كما كانت لهم براعة في التجارة من جراء رحلة الشتاء والصيف، وحيث إن الحجاز كانت تضم فئات وجاليات نصرانية ويهودية فإنها كانت تتداول الكتب الدينية فيما بينها، ولذا فإن الحجازيين ذوو ثقافة وكلمة وأدب لا يقدم على إنكارها من يرجح العقل والمنطق. وإن كانت هذه الفئة قليلة إذا ما قيست بعموم الناس لقلة نسبة المتعلمين في زمانهم.
كتب قديمة ألفت في الخط وآدابه:
– رسالة “ميزان الخط” لابن مقلة. – رسالة “في الوراقة” ورسالة في “القلم” للجاحظ. – كتاب “الإكليل” للهمداني. – رسائل إخوان الصفا. – فهرست ابن النديم. – كتاب “أدب الكتابة” لمحمد بن يحيى الصولي. – رسالة في “الكتابة المنسوبة” قيل إنها للمجريطي أو إنها لأبي حيان التوحيدي. – رسالة في “علم الكتابة” لأبي حيان علي محمد التوحيدي البغدادي. – القصيدة الرائية وفيها قواعد الخط لأبي الحسن علي بن هلال. – الكتابة وصفة الدواة والقلم وتصريفها. – عمدة الكتابة وعدة ذوي الألباب للمعز بن باديس الفاطمي. – شوق المستهام في معرفة رموز الأقلام لأبي بكر النبطي. – المحكم في نقط المصاحف لأبي عمرو الداني. – الكتاب العربي المخطوط- تعليق الدكتور صلاح الدين المنجد وبه نماذج مختلفة من الخطوط من القرن الأول الهجري إلى القرن العاشر. – تاريخ العرب قبل الإسلام للدكتور جواد علي. – حكمة الإشراق إلى كتاب الآفاق لمرتضى الحسيني. – طبقات الخطاطين – للسيوطي. – جامع محاسن كتابة الكتاب ونزهة أولي البصائر والألباب لمحمد حسن الطيبي. – العمدة في الخط العربي للشيخ عبد الله السهيني. – تحفة أولي الألباب في صناعة الخط والكتاب لابن الصايغ. – صبح الأعشى، لأبي العباس القلقشندي. – معالم الكتابة ومغانم الإصابة لعبد الرحمن القرشي. فهذه الكتب وغيرها من غير العربية بحثت تاريخ الخط والخطاطين، وفيها ذكر من وضع الخط وأصله، ووصله، وفصله، وفي فضل الخط وما قيل عنه، وفي القلم وما لهم فيه من الحكم وفي الدواة وصفتها وآلاتها، وفي المداد وألوانه، وفي بري القلم وطرقه، وفي النقط والشكل وفي ذكر أسماء الكتبة الكرام من لدن النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الزمان الذي عاصره أولئك المؤلفون، وإن كان ما جاء وما يجيء من بعده من أمثال هذه المؤلفات وهي المصادر المعتبرة من كتب حديثة، ما هي إلا امتداد للمؤلفات القديمة، وعندما امتدت الفتوحات الإسلامية ودخلت في الإسلام أمم وطوائف غير عربية اختلط هؤلاء المسلمون الجدد بإخوانهم العرب فأدى ذلك إلى ظهور التصحيف واللحن والقراءة الرديئة والمغلوطة، مما أوجب ظهور نظام الحركات أو الشكل والنقط فظهر النقط الإعجامي وهو ما تتميز به الأحرف “ب، ت، ث، ج.. إلخ” والتي وصفها تلاميذ أبي الأسود الدؤلي ومنهم يحيى بن يعمر ونصر بن عاصم وابن مالك وابن سيرين، وقد قوبل هذا النظام بمعارضة شديدة ومن ذلك ما قاله أنس بن مالك وعبد الله بن مسعود الذي قال: “لا تخلطوا في كتاب الله ما ليس منه”. وعلى الرغم من ذلك فإن الخط العربي لم ينل عند أمة من الأمم حتى ولو كانت من ذوات الحضارة العريقة ما ناله عند المسلمين من اهتمام وعناية وإتقان وتفنن وإبداع يفوق الوصف والتعبير، حيث اتخذوه بادئ ذي بدء وسيلة للمعرفة، ثم ألبسوه لباس التدين والرجوع إلى الواحد القهار. ولما ازدهرت الحضارة الإسلامية أصبح الخط فناً، فوضعت له قواعد علمية بعد أن كان غاية المعرفة، وجعلت له أساليب وطرائق تهدف كلها إلى إظهار كل مناظر الفتنة ومظاهر الجمال المتناهي فيه، حيث أعطيت للخط أشكال مختلفة تتسم بالرشاقة، والتناسب تشع فيه الحياة وتجري في خمائله وكأنها حروف من السحر حتى بلغت أنواعه العشرات بل وتزيد.
علم الخطاطة:
هو علم استخراج الخطوط القديمة، أو تقديم الخطوط القديمة. تستطيع به استيضاح الكتابة التي مر عليها فترة من الزمن والكشف عن الخطوط العتيقة المستغلقة التي عميت علينا إما لجهلنا بأصول مؤدياتها وإما لصعوبة خاصة بذات الحرف المعروف أو لانطماس الكتابة بسبب عوامل الدهر وتقلب إملائها وغرابة رسومها أو انعدام نقطها، وهذا العلم يشمل ميداناً فسيحاً يستوعب جميع الوثائق المكتوبة من الكتابات المنقوشة على الحجر أو الجلود أو الرقوق أو النقود أو العقود، أو الكتب والمخطوطات بصفة عامة. والخطاطة تبحث في التطورات والتغيرات التي طرأت على الخطوط كما تدرس كل خط من حيث الخصائص وميزات العصر.
أقوال في حسن الخط:
يقولون في حسن الخط: إذا كان الخط حسن الوصف، مليح الرصف مفتوح العيون، أملس المتون، كثير الائتلاف، قليل الاختلاف، هشت إليه النفوس، واشتهته الأرواح، حتى إن الإنسان ليقرأه ولو كان فيه كلام رديء، ومعنىً رديء مستزيد فيه ولو كثر، من غير سآمة تلحقه، وإن كان الخط قبيحاً، مجّته الأفهام ولفظته العيون والنفوس، وسئم قارئه، وإن كان فيه من الحكمة عجائبها ومن الألفاظ غرائبها.
وسأل الصولي بعضُ الكتاب عن الخط: متى يستحق أن يوصف بالجودة؟ فقال: “إذا اعتدلت أقسامه، وطالت ألفه ولامه، واستقامت سطوره، وأظلمت أنفاسه، ولم تختلف أجناسه، وأسرع إلى العيون ترصده وإلى القلوب تنحره، وقدّرت فصوله، واندمجت أصوله، وتناسب دقيقه وجليله، وتساوت أطنابه، واستدارت أهدابه، وصغرت نواجذه وانفتحت محاجره، وخرج عن نمط الوراقين” وبعد عن تصنع المحررين، وخيل أنه يتحرك وهو ساكن.
وقديماً قال الشاعر :
إذا شئت أن تحظى بحسن كتابة ورتبـــة فـــي العالمين
تزين تخيّر ثلاثاً واعتمدها فإنها على بهجة الخط المليح تعين
مداداً وطرساً محكماً ويراعة إذا جمعـــت قــرت بها عيون
ولابد من شيخ يريك شخوصها يساعد في إرشادها ويعين
ومن لا له شيخ وعاش بعقله فــــذاك هبـاء عقلـه وجنـون
وبعد… فبعد أن تطرقت إلى الحديث عن الخط العربي بالرجوع إلى مصدر الخط العربي للمهندس الفاضل تاج زين الدين. أرجو مخلصاً أن يأخذ الشباب بملكات الزخارف والخطوط ورسومها السحرية التي لا محالة أنها تملأ مخيلاتهم وهي موروثة عن الماضي وعظمته، حتى تبدع أناملهم فناً يشغل الألباب عبر القرون ليبقى خالداً ساحراً للناظرين على مر السنين إلى يوم الدين، وما عليهم إلا أن يتصفحوا ما ورد عبر القرون عن القدماء من مآثر وينقبوا عما دفن تحت أراضيهم من كنوز ثمينة ولا يقتصر اهتمامهم على التقليد فلابد من التطوير والتجديد، وقد اجتمعت مباحث كثيرة ومغانم كبيرة مما لا يدخل تحت حصر في الكتب الإسلامية فما على الشباب وحتى الشيوخ إلا الاستلال من ذلك التراث للتقصي إلى أبعد الحدود وصرف العناية كل العناية على ضبط الأصول وإيجاد القواعد فيما يفيد العالم والمتعلم في صناعة الخط، ولن يتأتى هذا إلا بالغوص في مسائل أكثر عمقاً من النقل والتقليد. وعلى المسؤولين الاهتمام بتطلعات الشباب وتحقيق آمالهم بفتح مدارس لتعليم الخط وأساليبه وطرائقه وأنواعه وشتى الزخارف ونفائسها وآثارها ووضع مدرسين متخصصين في تدريس الخط في المدارس على مختلف مراحلها ومستوياتها، حيث إننا قد سلمنا بأن الخط صناعة والصناعة بحاجة إلى مهرة حاذقين، ليستمر العطاء ويزيد النماء ونحقق الكفاية الوطنية من الخطاطين، فإنه مهما بلغ الإنسان في صعود درجات التطور والرقي فإنه لن يستغني عن كلتا يديه أو إحداهما في تحسين العمل وتزويقه وتنميته.
http://www.bab.com من موقع