في مسيرة الكلمة العربية منذ البعثة المحمدية إلى عصرنا، تبين أن للحرف العربي صورة تشكيلية، أضافت إلى إمكاناته بعداً ثالثاً، بعد أن كان بعده الصوتي وحده صورة متميزة، وبعده المعنوي الذي يتكون باشتراك الحروف في أداء المضمون والمفاهيم كانت من دقة الدلالة وروعة الأداء، حتى جعلت علماء اللغة يتفرغون لدراسة تفرعات التعبير، بين ترادف وتقابل وتضاد، دراسة أبرزت ثراء مفردات اللغة العربية القرشية، التي جمع القرآن الكريم العرب جميعاً عليها، واندثرت أو كادت لهجات القبائل الأخرى.
هذا البعد الثالث، كان شكله الطيع المتوحد، الطيع في قبوله للتشكل وإمكانية التنوع في الصورة، والمتوحد على اختلاف أوضاعه بين انفراد وارتباط في أول الكلمة وآخرها ووسطها.
وقد استغل أساتذة التدوين هذه الطواعية، واستفادوا من إمكاناتها الجمالية، في التعبير الفني التشكيلي، على صفحات المصاحف والمدونات، دون إهدار لمضمون الكلمات والجمل ومعانيها، بل تخطت هذه الميزة بالكلمة العربية، صفحات الأوراق والقراطيس، إلى جميع ما استعمل المسلم والعربي، ومواطن الدولة الإسلامية العربية، من أدوات منزلية، وما سكنه من دور وعمائر، وما صلى فيه من مساجد فتشكل الحرف والكلمة العربيين، على الحجارة والمعادن، والأخشاب، والثياب بألوان متعددة من طرز الكتابة والخطوط، التي تنوعت وتعددت في الإقليم الواحد، وانتقل تنوعها عبر البلاد الإسلامية والدولة العربية.
وعندما استوت على عرش التدوين والتشكيل طرز الكتابة الكوفية المتعددة، والنسخية، ثم أقلام الثلث والفارسي، ظهر في شرق الدولة الإسلامية، على حدود الصين، وبلاد ما وراء النهر، حيث الولايات الإسلامية في نطاق اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية ـ ظهر لون من ألوان الخط العربي، تميز عن غيره بقاعدة مرنة التشكيل والتكوين، محددة الوحدة والمظهر، وقابلية للتنفيذ بأساليب متعددة على واجهات العمائر الإسلامية، بأحجام تتناسب مع الضخامة المعمارية، وإمكانية التنفيذ على المعادن، والأخشاب والثياب أيضاً.
كانت وحدات هذا اللون من الخط تربيعية الشكل حتى سمي باسم: الكوفي المربع، واشتهر بالمعماري لكثرة استغلاله في التشكيل الجمالي لمسطحات العمارة، والقباب، والعقود، مع استعمال الخزف الملون، أو الطوب المحروق الملون في تشكيل وحداته حتى أصبحت واجهات العمائر كثياب التطريز وشياً وجمالاً، شغلتها الوحدات النجمية الهندسية، والتربيعية في توزيع جميل أخاذ وانتقل هذا الخط إلى بلاد إسلامية عديدة ، مع رحلات الفنيين والصناع، ودخل مصر مع النهضة العمرانية في عصر السلطان المملوكي الناصر محمد بن قلاوون (7هـ، 13م) الذي كان بنفسه من أصحاب التصميمات الهندسية والابتكارات المعمارية ـ وظهر هذا الخط منذ ذلك الحين على واجهات كثير من المساجد والخانقاوات، والمدارس المصرية.
وربما كان هذا الخط سبباً في اكتشاف إمكانية استخدام اللبن المحروق كوحدة بناء وعنصر ووحدة تشكيل جمالي، فأضاف بذلك إلى المجد الفني الإسلامي ميزة واضحة، وتلك من مميزات الفنان المسلم، الذي كان يستخدم العنصر المعماري بحيث يؤدي وظيفتين في آن واحد، الوظيفة المعمارية، والمظهر الجمالي، فالعُمُد والعقود والقباب، لها وظائف الجمال والتماسك المعماري، وجعلها الفنان المسلم عنصراً جمالياً ، أكسب العمارة الإسلامية مظهراً فريداً في بابه.
ولما تجلت للبناءين تلك الحقيقة التشكيلية، استعانوا بالطوب المحروق المزجج ـ ذي الطلاء البراق ـ الملون، أو غير الملون، كعنصر بناء إذا صف بطريقة معنية كون أشكالاً هندسياً تربيعية أو نجمية، وصارت الطوبة واللبنة في يده كلمة اللون من يد الفنان التشكيلي في لوحاته، أو كحركة خيوط النسج المطرز على أنوال النسيج، فهي حركة بناء، وقدرة تشكيل جمالي في آن واحد.
وفي عصرنا الحاضر الذي تنوعت فيه أدوات التعبير الفني، يمكن لهذا الخط العربي الأصيل، مع عديدة من العناصر التشكيلية، نباتية وهندسية، وفي تجانس لونى متقارب أو مختلف الإيقاع، على العين الذواقة للجمال الخالص المجرد، أن يظهر إمكاناته المتعددة في الظهور من جديد، وعبر خامات متنوعة، باستخدام وحداته المربعة في تكوينات.
1) الخزف التربيعي الملون على الواجهات المعمارية.
2) أشغال السجاد الجدارى ـ يدوي وميكانيكي.
3) أشغال الإبرة والتطريز ـ الكانافاه.
4) أشغال الأخشاب الدقيقة ، الصدف والعاج والزرنشان.
ولا تقتصر قدرة الوحدات التربيعية، على الثراء الفني بتنـويع أشكال الكلمات وتشكيل الوحدات الملونة المجردة ـ هندسية أو نباتية ـ بل تتخطاها إلى تشكيل بعض الأشكال الحيوانية والطبيعية، في أفاق من الابتكار الواسع الذي لا يحد، كل ذلك فضل ينتسب إلى صاحبه، وهو الحرف العربي الجميل الطبع في أداء ثابت رصين.