أصبحت الحروفية التي يشتغل عليها عدد كبير من الفنانين التشكيليين العرب والمسلمين المعاصرين، تياراً له ثقله الكمي والنوعي، في الحياة الفنية الحديثة للعالمين العربي والإسلامي، وهي على قدر كبير من التنوع والاختلاف والتفرد، من فنان لآخر، ومن بلد لآخر أيضاً. والتنوع هذا، يطال الشكل والمضمون، والصياغة والفكرة والحاضن والمحضون، إضافة إلى التقانات وطرائق توظيف بنية الحرف في بنية عمارة اللوحة.
وتيار الحروفية هذا، لا يعيش معزولاً عن باقي الاتجاهات والمدارس الفنية السائدة في هذه الحياة الفنية، بل يتفاعل ويتعايش معها، يدفعه هاجس تحقيق الهوية المحلية، في المنجز البصري المعاصر، خاصة بعد الطغيان الهائل، للاتجاهات والأساليب والتقانات الغربية الفنية، على فنون هذه الحياة!
من المؤكد أن الخط العربي، يعد من أهم وأبرز العناصر التشكيلية القادرة على التجاوب مع الفنان التشكيلي، ومساعدته على استنهاض عمارة تشكيلية متفردة في منجزه البصري، نظراً لصفة الخط العربي الكامنة التي تتيح لهذا الفنان، إمكانيات كبيرة، للتعبير عن الحركة والكتلة.
وليس المقصود هنا بالتعبير عن الحركة المعنى المرتبط بأشياء متحركة، وإنما المقصود معناها الجمالي والتشكيلي الذي يعني الحركة الذاتية التي تجعل الخط يتراقص في رونق مستقل عن أي غرض آخر. ومع أن المعنى الذي تحمله الكتابة العربية له أهميته البالغة، لكن الفنان يعتقد أن الوظيفة التشكيلية للخط هي أيضاً ذات أهمية بالغة، وأن المعنى الذي تحمله العبارة أو الكلمة أو الكتابة، هو معنى كامن فيها، تتحقق به البركة التي ينشدها، بغض النظر عن عدم إمكان قراءتها للوهلة الأولى.
إذا ما قمنا باستعراض ما أنتجته الحضارة العربية الإسلامية في العمارة والفنون التطبيقية، نجد أن النصوص الخطية، لعبت دوراً تشكيلياً، وجمالياً أساسياً في هذه الفنون التي نُفذت بمواد وخامات مختلفة منها: الجص، الرخام، الحجر، المعادن، الزجاج، الخزف والقاشاني، النسيج، أو في الرسوم المرافقة للنصوص والكتابات. لقد تكاملت هذه النصوص الخطية من الناحية التشكيلية والجمالية مع الشكل العام للمنجز، ومع أنواع الزخارف المرافقة لها، أكانت هندسية أم نباتية.
ولما كان على الفنانين العرب والمسلمين المساهمة في تغذية تيار الفن التشكيلي العالمي بروافد عربية أصيلة، دون الذوبان الكامل في هذا التيار، كانت قضيتهم الأولى هي البحث عن الهوية العربية الإسلامية، والعمل على تأصيل الفن العربي الإسلامي ليعبر عن قيم جمالية إسلامية لها طابعها ونكهتها الخاصة.
على هذا الأساس، وبهكذا دوافع نبيلة ومشروعة، تبنى الفنانون التشكيليون المسكونون بهاجس التفرد والبحث عن الصوت الخاص، شعار (التراث والمعاصرة)، فولد بذلك، تيار استلهام الخط العربي الذي رأى فيه البعض فناً كبيراً في قلب الفنون التشكيلية العربية والإسلامية المعاصرة، حيث اكتشف الفنان العربي والمسلم أن وراء الحرف الواحد، أكثر من صوت ومعنى ولغة. أما موسيقا الخط بشكل خاص، فهي تلك التي اكتشفها الخطاطون الذين تحولوا إلى جماعة (الحروفيين) وهي جماعة مولعة بالخط العربي، تؤمن بالقيمة الجمالية والصوفية للحرف العربي، وتستعيره كبطل منقذ لمشاكل سطح العمل الفني التشكيلي في الرسم والتصوير، أو حتى في الكتلة الناهضة في الفراغ، بطل يمنح المنجز التشكيلي العربي المعاصر (وحتى الإسلامي) مقومات تفرده واختلافه عما يضخه الغرب من تيارات واتجاهات وبدع لا تتوقف، لها طابع العمومية، ومغرقة في الانغلاق والدوران حول ذات الفنان وهلوساته المبهمة والغامضة والمريضة.
والحروفيون، جماعة مرتبطة بتقاليد الخط العربي العريقة، وفي التأويل الشعبي والصوفي الذي يتحدث عن تأثير الحرف في مصائر الناس وعواطفهم وأحاسيسهم وعقولهم، لما يحمل من أبعاد إيحائية بصرية ومضمونية كبيرة، أو هكذا يجب أن يكونوا، للفوز بعمل حروفي متكامل المقومات التشكيلية والتعبيرية.
فن البعد الواحد
يقوم الحرف العربي على البعد الواحد، وهذا يعني أن الوجود يتحقق بالعودة من الحجم إلى أصله الشكلي، ومن الشكل إلى أصله الخطي، ومن العالم الخارجي إلى طبيعة روحية، أي أنه غير تصويري، وغير التصويري يعبر عن نفسه بالحرف.
هذه الرؤية الفلسفية الخاصة للحرف العربي، تمثل رحلة معاكسة من الشجرة إلى البذرة، أو من الحجم إلى الحرف، وكأنها مروحة في يد إمرأة جميلة، تضمها فتختفي الرسوم والألوان في مقبض المروحة الشبيه بحرف الألف، أو تفتحها فيتحول الحرف إلى حدائق وأزهار وشموس مشرقة وساحرة. – على حد تعبير شاكر حسن آل سعيد-.
الحقيقة أنه تحت خيمة الفن العربي الإسلامي بشكل عام، ينضوي العديد من الأعمال التراثية الجمالية الباهرة والمتفردة، وفي سياقها تأتي (الحروفية) وغيرها من الاتجاهات الفنية البصرية المسكونة بهاجس التفرد، وتحقيق المنجز البصري المعاصر الدال على الأمة وتراثها ووقتها الحالي في آن معاً.
على هذا الأساس، تجابه البحث في الاتجاهات الحروفية المعاصرة، جملة من النتاجات الفنية المتباينة والمختلفة في الأسلوب والصياغة، ترافقها بخط مواز، جملة من الآراء والرؤى والفلسفات التي تبررها لدى الباحث والمتلقي في آن معاً. فبعض المشتغلين في هذه الحقول، يرى أنه بالإمكان اتخاذ الحرف العربي موضوعاً للفن والجمال، خاصة إذا علمنا أن اللغة العربية هي واجهة لعمق الحضارة الإسلامية، واستخدام الحرف العربي في الفنون التشكيلية الحديثة، وولادة ما يسمى بالحروفية، أو بجماعة البعد الواحد، ما هي سوى محاولة من هؤلاء للوصول إلى هذا العمق الحضاري الإسلامي، وما يدعم هذا التوجه ويسعفه كثيراً، تمتع الكتابة العربية بجمال حروفها، مفردة كانت أو مركبة. يضاف إلى ذلك، الخاصية المتفردة لهذه الحروف والمتمثلة بمطواعيتها وقدرتها وقابليتها، لأن تكون مجالات رحبة لابتكار أساليب وصيغ فنية جديدة. كما أن من خواص الحروف العربية مرونتها وتجاوبها مع عمليات المد أو الاستدارة، الصعود أو النزول، الذهاب شاقولياً أو أفقياً، التصغير والتكبير، اعتماد حرف، أو أجزاء من حرف، أو مجموعة من الحروف أو كلمة كاملة، أو مجموعة من الكلمات.
هذه الإمكانيات المفتوحة أمام الفنان الحروفي العربي والمسلم، دفعته للبحث والتجريب والعمل الدؤوب، من أجل الخروج بأثر فني معاصر متفرد كصياغة فنية، وكبعد دلالي حضاري سام، مواكب ومواز للبعد الآخر.
هذا الدور المهم والمتميز للحرف العربي، في التشكيل والتعبير، ليس جديداً أو طارئاً، في الفنون العربية الإسلامية، وإنما يعود إلى أمد بعيد، إذ طالما حاول الخطاط العربي والمسلم تسخير هذه الوسيلة لإحياء القيمة الجمالية التشكيلية التي تتمتع بها. والخط العربي، من جهة ثانية، ليس مرآة تعكس العالم المرئي، بل هو عالم يحكمه منطق تشكيلي داخلي. على هذا الأساس، يرى بعض الباحثين الجماليين أن الحروفية العربية بدأت مع جماعة البعد الواحد في العراق. فهذه الجماعة، شكلت أول مدرسة حديثة، اهتمت بإدخال الحرف العربي في عالم الفن التشكيلي المعاصر، وقد تمكنت هذه الجماعة من تطويع الحرف العربي، وإبداع مجموعة من الأعمال الفنية التشكيلية الحروفية الجديدة، وزعوا فيها الكتل اللونية ببراعة لافتة، وقاموا باستثمار فضاء اللوحة بشكل متقن وجميل ومعبر، ما جعلنا في مواجهة ممتعة، لأعمال فنية عربية السمة، إسلامية اليد واللسان، شرقية الهوى والنكهة، أبهرتنا بتقاناتها العالية، وتوافق وانسجام عناصرها المكونة لها.
القديم والجديد
الخطاطون العرب والمسلمون الذين تعمقوا في دراسة الخط العربي، وأبحروا في عوالمه الغرافيكية التشكيلية والدلالية، وجودوا فيه سحراً خاصاً مرصوداً، ليس بمقدور غير المتمكنين والعاشقين له، من الوصول إليه.
واحد من هؤلاء، وأثناء بحثه، وجد رابطا بين حرف الهاء والنقطة، وهذا كما يرى له دلالة صوتية واضحة، فميزان الحرف -كما يقول الفنان الحروفي السوداني تاج السر حسن- نقطة، ومحور دوران الكون نقطة، والإنسان خلق من نقطة، والنقطة هي المطلق والمنطلق لكل شيء، من هنا يجب أن ندفع الخط للتفاعل والمواكبة، لأنه يملك ذخيرة لا نهائية، تلتقي مع أي مزاج، وهو خزان كبير، يسعى العديد من الحروفيين لفتحه على فنون العصر، وفق إيقاعات موسيقية، وبناءات وحوارات بالكتلة والفراغ، بالخلاء والملاء.
الخطاط الإماراتي “حسين السري” يرى: أن الخط العربي يملك إحساساً أكثر من الرسم، على الأقل بالنسبة له، فالخط يملك الصبر كونه أصعب الفنون الإسلامية، وهو هندسة روحانية ظهرت بآلة جسمانية هي اليد. الخط موسيقى العيون، وهو غذاء روحي يشبع المشتغلين عليه.
ويؤكد الخطاط “السري”: أن موازين الخط تعتمد على حفظ القاعدة والخبرة والممارسة.
الفنانون التشكيليون يعمدون إلى تمثيل حروف بمجرد شكل، أما هو فينجز لوحة فنية لها قواعد وموازين. بغض النظر عن اختلاف وجهات النظر بين الخطاطين والتشكيليين، تبقى محاولة توظيف قدرات الخط العربي في خلق منجز بصري معاصر محاولة مهمة ونبيلة الأهداف والغايات، يجب دعمها ورعايتها ودراستها، لتأخذ أبعادها الكاملة، إن على صعيد اللوحة الحروفية التي تحاول فتح قدرات الخط العربي على فنون العصر، أو على صعيد اللوحة الخطية الكلاسيكية، فنحن بحاجة للتوجهين.
أما الخطاط اللبناني “محمود بعيون” فيرى: أن واقع التشكيل بالحرف شبيه اليوم بواقع سائر الفنون. نحن نراعي أذواق الأجيال في ما نرسمه. صرنا نلون خلفيات اللوحات، وكنا في السابق نعتمد الأسود على خلفية بيضاء، أو الأبيض على خلفية سوداء، ونترك للمشاهد فرصة البحث عن الجمالية الكامنة في الحرف وفي أسلوب تشكيله. عموماً نستطيع القول إن ميدان الخط العربي ضاق كثيراً هذه الأيام.
الباحث “جمعة قاجة” يرى: أن الخطوط العربية تتسم بتنظيم الفواصل والمسافات والأبعاد على النحو الذي يتلاءم مع حجم الكلمة ومساحتها، ويؤكد أن الكتابة هي الفن السامي بالنسبة للمسلمين، وأن ما نقش على الحجر من كتابة، أو كتب بالحبر في المخطوطات، أو الذي طرق على ألواح النحاس والمعدن؛ يثبت مدى المجهود الذي بذله الفنان المسلم في هذا المجال.
وفضلاً عن الدور الزخرفي الجمالي للخط العربي كجزء من المعمار الإسلامي، فإن نقش الخطوط كان يستخدم لأغراض وغايات أخرى فلسفية ودينية ونفسية وإيحائية وروحية . . . وغيرها.
الخط العربي كفن، بدأ مع التدوين القرآني؛ حينما أخذ الناسخون يجودون ويحسنون في كتاباتهم إكراماً للنص القرآني والتماساً للبركة والمغفرة، والتقرب من الله. ومن هنا نشأت مجموعة من الخطوط التي أعطت للكتابة العربية بعداً جمالياً، إلى أن جاء شيخ الخطاطين الوزير “ابن مقلة” ليضع قواعداً لها.
إن مسيرة الخط العربي، وتاريخ الحروف العربية، يمكنهما أن يكشفا الكثير من خبايا وخفايا الذات المسلمة، لاسيما إذا توغلنا في النصوص الصوفية التي كانت ترى في حقيقة الحروف دلالات كونية.
مجلة الكويت، العدد 290 ، ديسمبر 2007 م